خسرنا ثروت عكاشة...

 

 

كنت طالبا في الجامعة في مصر، في الستينات من القرن الماضي، عندما تم افتتاح قاعة سيد درويش للموسيقى في منطقة الهرم. وقد استضافت القاهرة لحفل افتتاح هذه القاعة الفخمة اوركسترا فينا الفيلهارموني، وكان برنامج الافتتاح مختارات للموسيقار العالمي شتراوس ، وفي مقدمتها الدانوب الأزرق، كان سعر تذكرة الدخول 11 قرشا مصريا، ولفت انتباهي ان من يجلس أمامي هو ثروت عكاشة، وزير الثقافة المصري، وأفراد أسرته، لم يكونوا يجلسون في الصف الأول من القاعة، وانما في الصف الرابع من البلكونة.

كان هناك برنامج اسبوعي كل يوم سبت للموسيقى الكلاسيكية، لأوركسترا القاهرة الفيلهارمونية، أو للموسيقى العربية لفرقة الموسيقى العربية وهما فرقتين أمر بتأسيسهما، ولم أكن لأفوت أي عرض لهما ، وفي كل عرض كنت أجد ثروت عكاشة وأسرته يقتربون مني، حتى كاد وجهي يصبح مألوفا لديهم فبتنا نتبادل ابتسامات، ثم تحية المساء ، ثم تطور ذلك الى أن أتجاذب أطراف الحديث مع ذاك الرجل الذي يمثل لمصر ولكل العرب، باعثا لنهضة ثقافية ضخمة واكبت حكم جمال عبد الناصر، ذلك أن تأميم قناة السويس وبناء السد العالي لم تكن أكثر أهمية من برنامج الثقافة للجميع الذي قاده عبد الناصر ونفذه على الواقع ثروت عكاشة، احد الضباط الأحرار الذي تنازل عن بزته العسكرية ليقود الحركة الثقافية.

كانت تراجم روائع الأدب العالمي، وروائع المسرح العالمي، وكتاب الشهر وكتاب الهلال تباع بثمن بخس ،خمسة قروش للكتاب الواحد ليكون شراؤها في مقدور أي انسان ، وكان تأسيس المسرح القومي، ومسرح الحكيم ومسرح الجيب، لتقدم عروضها بسعر تذكرة مخفضة جدا، ليشاهد من يؤم هذه المسارح عمالقة التمثيل المصري الجاد، يؤدون ادوارهم في مسرحيات عالمية ومحلية كلاسيكية أو حديثة جادة تحرك ذهن مشاهدها، لمسارح تدعمها الحكومة كليا ...

كان السد العالي في طور الانشاء، وكانت بحيرة ناصر التي ستتشكل خلفة، ستغمر بعض معالم مصر الأثرية، فقاد ثروت عكاشة معركة وحملة لانقاذ معبد أبو سمبل، وغيره، حتى تبنت اليونسكو دعوته وتم تنفيذ حملة الانقاذ هذه بأن تم نقل المعبد من مكانه الى مكان آمن آخر. كان ثروت عكاشة يشرف بنفسه على عملية القص والفك والنقل والتركيب لمعبد ضخم عالي الارتفاع ، في أكبر عملية حماية لآثار تمت حتى ذلك العصر واستغرق تنفيذها عدة سنوات ..

كان تطوير عرض الصوت والضوء امام الهرم، وجعل أبو الهول يتكلم متحدثا عن أمجاد وتاريخ الفراعنة هو أحد انجازات ثروت عكاشة، وكان تحويل بعض قصور اقطاعيي مصر الذين أممهم عبد الناصر الى قصور ثقافية موزعة في المحافظات والمدن والقرى المصرية أحد انجازاته الكثيرة في المجال الثقافي، ولا أريد الاستزادة في سرد انجازاته فهي كثيرة ومتنوعة..

لقد آلمني عندما وصلت القاهرة قبل بضعة ايام، أن اسمع نعي ثروت عكاشة الذي قدره العالم كله بجوائز وشهادات دكتوراه فخرية، غادر هذه الدنيا ليترك وراءه أبحاثا وكتبا وتراجم قام بها يزيد عددها عن المائة أثر مطبوع .. ومثل هذا الرجل يستحق منا أن نترحم عليه، أن نرفع قبعاتنا تحية له ولانجازاته، وأن ندعو الله له بالرحمه، وندعو لانفسنا أن نجد رجلا عربيا بارتفاع قامة ثروت عكاشة.. رحمه الله وعوض العروبة بأمثاله...