دراما الفتنة و مقص الرقيب

بدأ موسم رمضان الدرامي لهذا العام بقصف غير اعتيادي في أخبار المنع والحجب والحذف، والذي طال أكثر من 11 مسلسلاً مصرياً وعدداً من المسلسلات السورية، إضافة لمسلسل إيراني مدبلج إلى العربية عن السيد المسيح.
تشترك ذهنية التحريم التي توجه قرارات المنع والحذف السابقة في أنها تدعي ملكية الحقيقة وتصادر حقوق الآخرين في التعبير. وتنصب من نفسها وصية على الجماهير البسيطة الساذجة السابحة في مهب الأفكار المسمومة القادمة إليها من كل حدب وصوب، والجاهزة في أي لحظة لإشعال حرب أهلية بسبب فكرة مسمومة مغرضة.
المسيح والفتنة الدينية
فإذا تناولنا مسلسل المسيح، الذي قامت الدنيا ولم تقعد في لبنان بعد عرض حلقتين منه، نجد أنه يمثل وجهة نظر المسلمين في طبيعة السيد المسيح، وهذه الرؤية ليست جديدة بل هي من صلب العقيدة الإسلامية، ويرددها المسلمون صباح مساء دون أن يؤدي ذلك إلى قيام فتنة بسبب هذا الموضوع منذ 1400 سنة. فما الجديد في الأمر حتى تقوم القيامة ويعلن الأمن العام اللبناني وقف المسلسل؟؟ هل ستستمر الحملة لتطالب المسلمين بتعديل وجهة نظرهم في طبيعة السيد المسيح، أم أنها ستطالبهم بحذف آيات من القرآن الكريم لا تتوافق مع وجهة نظر كنيسة من الكنائس!
إن الخلافات المسيحية - المسيحية حول طبيعة السيد المسيح قديمة وقديمة جداً وتعود إلى بدايات الكنيسة، ومنذ أول مجمع كنسي عقد في نيقية أيام الإمبراطور قسطنطين، وبعد صراعات دموية استمرت مئات من السنين وحصدت الكثير من الضحايا بين أتباع الكنائس المختلفة اتفق الجميع على أن لكل كنيسة وجهة نظرها، ولكل مؤمن حرية الاعتقاد فيما يعتقد، فهل يريد أصحاب الحملة ضد مسلسل المسيح أن يعيدوا الذكريات السيئة لحروب طبيعة السيد المسيح التي لونت التاريخ الكنسي باللون الأحمر؟؟!
القعقاع والفتنة المذهبية!!
أما ما يجري مع مسلسل القعقاع فهو أدهى وأمر، فالكاتب ياسين عبد اللطيف وقف موقف المترصد من المسلسل منذ مرحلة الرقابة على النص، ووضع ملاحظات تاريخية استقاها من بعض المراجع، وحملها أكثر مما تحتمل، لأن الكثير من النصوص التي قال إنها إشكالية وأنها تثير الفتنة لا يوجد إجماع تاريخي حولها، ثم من قال إن الروايات التاريخية العربية الإسلامية هي نصوص مقدسة لا يأتيها الباطل، إن بعض الروايات التي يقول الكاتب عبد اللطيف إنها تثير الفتنة واردة لدى الطبري وغيره من المراجع التاريخية لدى أهل السنة والجماعة.
ثم كيف يمكن لكاتب أو مخرج أو مبدع أن يتناول حقبة تاريخية من تاريخ الإسلام إذا لم يختر رواية معينة يعتقد بأنها تخدم هدفه الدرامي. والسؤال الأهم هو هل هناك رواية حاسمة لأي حدث تاريخي يعود إلى حقبة صدر الإسلام؟؟. إن الروايات العائدة إلى هذه الحقبة متعددة ومتشعبة ومتناقضة في أحيان كثيرة، فمن الذي يحكم أن هذه الرواية صحيحة والأخرى خاطئة طالما أنهما واردتان نقلاً عن الرواة الثقاة العدول؟.. وتكفي نظرة واحدة لتاريخ الطبري أو البلاذري لكي يدرك المرء أن الموضوع موضوع روايات متعددة متجاورة، متوافقة حيناً ومتناقضة أحياناً، دون أن تثير أي فتنة أو حرب أهلية، لأن القاعدة التي كانت سائدة في ذلك الوقت قاعدة متسامحة تقول إن (العهدة على الراوي)، وليست قاعدة شديدة التشنج كما هو الحال اليوم، تحاسب الناس على نواياهم.
وللتدليل حجم الكارثة تكفي نظرة واحدة عبر موقع غوغل إلى كلمة مسلسل القعقاع وإلى جانبها كلمة فتنة لكي نطالع مئات المواقع التي نقلت أخبار الفتنة والشر المستطير الذي ينتظرنا نحن العرب جراء عرض المسلسل.
ناظلي وبلبلة الشارع المصري
أما الأغرب من كل هذا فهو منطق الرقابة المصرية التي اعتبرت سرقة ممرضة لبعض الأدوية مشهداً يسيء لمهنة التمريض، ولذلك تولت النقابة المعنية القيام بحملة ضد المسلسل المسيء، فإذا عممنا هذه القاعدة فلن نستطيع مشاهدة أي مسلسل على الإطلاق، لأن نقابة الأطباء ستطالب بمنع مسلسلات تتناول أطباء يسيئون لمهنتهم، ونقابة المحامين ستمنع مسلسلات تتحدث عن محامين غير نزيهين، ونقابة الصيادلة ستمنع ونقابة الصحفيين ستمنع، وكأن وظائف النقابات تحولت إلى الرقابة التلفزيونية، وليس الدفاع عن حقوق الأعضاء.
وكذلك سبب غريب ساقه الرقيب على حذف مشاهد من مسلسل ملكة في المنفى الذي يتحدث عن سيرة حياة والدة آخر ملوك أسرة محمد علي، وهذه المشاهد هي التي تسافر فيها الملكة "ناظلي" إلى سويسرا ثم أميركا ومشاهد تحولها من الإسلام إلى المسيحية والتي ظلت عليها حتى وفاتها ودفنها في مقابر الكاثوليك بأميركا، كذلك مشاهد تعرف ابنتها الأميرة "فتحية" على زوجها رياض غالي المسيحي وزواجهما وقتلها على يديه. حيث رأت الرقابة أن عرض هذه المشاهد يؤدي إلى بلبلة في الشارع المصري وأزمة كبيرة.
الشارع العربي، إذن، يقف على حافة الحروب الأهلية، ومسألة تأجيل هذه الحروب تعتمد فقط على النوايا الطيبة للمطالبين بحجب أو منع أو حذف مشاهد من هذا المسلسل أو ذاك، فلولا العناية الإلهية، وهذه الكوكبة من الغيارى على مصير هذه الأمة لغرقنا في بحار من الدماء!!!
تيسير أحمد- شام نيوز