ديمقراطية بلا ديمقراطيين

حين أعلن انعقاد مؤتمر سميراميس الذي ضم شخصيات معارضة ومستقلة من الداخل السوري، تعرض المؤتمر حتى قبل أن يبدأ أعماله أو يصدر بيانه لاتهامات شتى، بدءاً بالعمالة للسلطة، والسير في ركاب إصلاحاتها، وفق بعض المعارضة، إلى العمالة للغرب وتنفيذ أجندة خارجية، وفق بعض الموالاة.
هذه النغمة ستتكرر مع كل مؤتمر ينعقد (وكانت آخرها قصة رشق البيض أمام أبواب جامعة الدول العربية)، ودون أن يدرك المعارضون الذين خوّنوا، أو أشاروا ببعض أصابع الاتهام خجلاً إلى أشقائهم في البداية، أنّ سيف التخوين سيطاولهم بعد حين، كمن يضع السكين على رقبته!
ومن هنا يتركز النقد على تسليط الضوء على تلك الشوائب اللاديموقراطية التي يعاني منها تفكير المعارضة، وسنقدم بعض أدلته التي تتركز في اتجاهين. الأول يناقش المؤتمرات وما تسرب من كواليسها، والثاني يسائل الشخصيات الفاعلة في المعارضة والانتفاضة ويساجلها.
أول هذه الأمثلة يتجلى في إعلان المجلس الوطني السوري أنّه الممثل الوحيد للشعب السوري، وذلك في تجاهل تام وبطريقة استبدادية لكل مكونات المعارضة الأخرى، وهي كثيرة جداً وأغلبها يمثل معارضة الداخل .
كيف قدر لصاحب «بيان من أجل الديموقراطية»، برهان غليون ومن معه، النطق بـ«احتكاره» تمثيل المعارضة السورية، والقول إنّ المجلس هو «العنوان الرئيسي للثورة السورية ويمثلها في الداخل والخارج»، وإنّ المجلس هو «هيئة مستقلة ذات سيادة».
كيف يمكن أن يمثل المجلس الشعب السوري في ظل إقصاء أطراف أخرى من المعارضة؟ وكيف يمكن القول: «ولا نقبل أي تدخل خارج إطار الاتفاق مع المجلس الوطني». هل يعني أنّ التدخل مقبول حال تم الاتفاق مع المجلس الوطني؟ وهل يحق للمجلس اتخاذ رأي في موضوع التدخل الخارجي، ولو تحت اسم «الحماية الدولية»،
ورغم تصحيحات بعض أعضاء المجلس اللاحقة، من أنّ المجلس لا يمثل المعارضة، إلا أنّ تصرفاته لا تصب إلا في احتكار التمثيل، ولعل تسلمه مفتاح السفارة السورية في ليبيا خير دليل على ذلك.
ومن جهة ثانية، رفضت الهيئة العامة للثورة الانضمام إلى المؤتمر لرفض القائمين عليه منحها الثلث المعطل في المجلس، لتخوفها من «وجود قوة براغماتية مثل الإخوان المسلمين، سبق لها أن دخلت في تحالفات مع العراق والأردن وخدام .
ويبقى السؤال: لماذا لم تمنح قوى الثورة ما تريد وهي الأساس في الثورة؟ ولم لم يكن هناك تريث لحين إيجاد صيغة موحدة للجميع؟
وقد قال هيثم مناع في حوار له في «الأخبار» في 6/10/2011، شاكياً من جماعة اسطنبول: «وهذه المجموعة سعت منذ البداية إلى فرض خريطتها على الجميع... ثم كان هناك مسعى مشترك من القوى السياسية الكبيرة لتشكيل «ائتلاف وطني سوري» يضم القوى السياسية الفعلية. لكن تلك المجموعة عملت على إفشال هذا الائتلاف». ويؤكد مناع أنّ هناك «محاولات لفرض الوصاية على العمل الكلي التوافقي بين مختلف التيارات السياسية. وتُرجم ذلك من خلال إعطاء «المجلس الوطني» لوناً إيديولوجياً محدّداً، حيث مُنح الإسلاميون بمختلف أطيافهم حجماً كبيراً يفوق حجم تمثيلهم الطبيعي، ويصل إلى 60 بالمائة من مجموع أعضاء المجلس». نترك كلام مناع من دون تعليق، ليعطينا مؤشراً إلى مدى «ديموقراطية» ما جرى في اسطنبول.
وما يزيد الطين بلة، ما نشرته «الأخبار» ايضاً من أنّ أطرافاً في المجلس الوطني السوري عرقلت عقد مؤتمر صحافي للمعارضين ميشيل كيلو وفايز سارة في باريس، وهما يمثلان هيئة التنسيق.
واعترفت الناطقة باسم المجلس الوطني «بسمة قضماني» بذلك حين قالت: «سألتني إن كان هؤلاء يضايقوننا ويخرّبون عملنا في المجلس الوطني، فتشاورتُ مع الدكتور برهان (غليون)، وأجبتُ وزارة الخارجية الفرنسية بأنّهم بالفعل يزعجوننا ويشوشون علينا، لكن لا تمنعوهم، واتفقنا مع الفرنسيين على أنّ هذا المؤتمر الصحافي يجب أن يعقد بكل حرية»! ولا نعرف كيف يمكن صوتاً معارضاً آخر أن يزعج الناطقة باسم المجلس الوطني أو يشوش عليها؟ ورأت هيئة التنسيق في بيانها أنّ الأمر يحوي «دلالات مزعجة»، مشيرة إلى أنّ المجلس يتبنى مقولة «إمّا معنا أو ضدّنا...
ونحن نعرف أين أخذتنا آليّة كهذه .
وهنا تطالب هيئة التنسيق المجلس الوطني بالديموقراطية، وهي محقة في ذلك. لكن يجوز توجيه السؤال نفسه إلى هيئة التنسيق التي أعلنت تكونها قبل أن تتوصل إلى اتفاق مع كافة أطياف المعارضة السورية. لماذا أعلنت الهيئة عن نفسها قبل التوصل إلى اتفاق يضم كل مكونات المعارضة السورية؟ هل لأجل امتلاك زمام القيادة؟ أم ماذا؟
كان يجدر بهيئة التنسيق، لا سيما أنّها الأكثر تمثيلاً للأحزاب المعارضة في الداخل، ولقدرتها على لعب دور بارز أن تكون صلة وصل بين معارضة الخارج والتنسيقيات، لكنّها أعلنت عن نفسها قبل أن تتوصل إلى اتفاق مبدئي مع كافة تشكيلات المعارضة. وضمن ذات السياق، قال منذر خدام أثناء ترؤسه جلسة السميراميس، «من ليس معنا فليذهب للجحيم!»، وذلك في دلالة على ضعف الديموقراطية.
وهذا الأمر سيتكرر مع مؤتمر الإنقاذ الذي تزعمه المحامي هيثم المالح، لنلاحظ أنّ كلاً من القائمين على تلك المؤتمرات سارعوا إلى الإعلان عن مؤتمراتهم، كي يكون كل منهم واسطة العقد، وليلتحق به الآخرون تاركاً مساحة لهم.
ثمة نرجسية وشخصانية هنا لا ترتقي إلى مستوى الانتفاضة التي يسعى الجميع إلى الاستثمار عليها، لا فيها..
ما سبق يطرح تساؤلاً مراً: أليس من المفترض أن يكون من يناضل لأجل الديموقراطية، ملتزماً بها أولاً؟
من جهة ثانية، ثمة شخصيات سورية بارزة، لها دور لا ينكر في الانتفاضة لجهة الدعم والمساهمة الفكرية ولتاريخها النضالي، لكنّها في الوقت ذاته تحمل في داخلها بذور إقصاء ما، لا تلبث أن تطفو على السطح بين فينة وأخرى، ومنهم الصديق ياسين الحاج صالح الذي كتب على حائطه في فايسبوك: «مع احترامي للدكتور طيب تيزيني، لم يكن في يوم من الأيام معارضاً»، وأتبع ذلك برابط عليه خبر عن دعوة روسية وجهت لمجموعة من المعارضين السوريين لزيارة موسكو بينهم تيزيني.
ويبقى السؤال: من يحق له أن يقرر من هو المعارض ومن هو الموالي؟ وهل من لا يلتزم برؤيتنا للمعارضة نخرجه منها؟ وهل ثمة فحص ما يتحدد من خلاله المعارض من اللامعارض؟ ماذا لو رد التيزيني على صالح بأنّه يستقوي بالحماية الدولية بعدما أعلن موافقته على المجلس الوطني المعارض؟ لندخل في تشكيك وتشكيك مضاد كي لا نقول تخوين!
هذه الأمثلة السابقة تدل من وجهة نظري الشخصية على وجود إقصاء ولا ديموقراطية في التعامل مع الآخر، لأنّ ثمة فرقاً بين عدم إعجابنا بطيب تيزيني ومواقفه وعدم اعتباره معارضاً، وثمة فرق بين عدم إعجابنا بمؤتمر السميراميس (أو بالداعين إليه) واعتباره يصب في خدمة النظام! قد يرد علي السيّد ياسين بما رد على الكاتب أسعد أبو خليل، بأنّني أتلصص على حسابه على فايسبوك وأنّ الكتابات هناك لا يؤخذ بها.
نتجه لمساءلة تصرفات الدكتور برهان غليون التي عبّر عنها هيثم مناع في حواره مع «الأخبار» بالقول: «لم يكن هناك أي خلاف.. إلى أن عقد اجتماع برلين الأخير. كان الدكتور برهان غليون قد وعد بحضور اجتماع «هيئة التنسيق الوطنية» في برلين، وكنا في انتظار وصوله. وإذا به يغيّر مساره باتجاه إسطنبول، من دون أي اعتذار أو تفسير أو إشعار. ومنذ ذلك اليوم، لم أتحدث معه ولم يتحدث معي. وأعتقد أنّ الأمر يحتاج إلى شرح وتفسير من الدكتور غليون».
ويزيد من هواجسنا هنا رد غليون حين سأله مارسيل غانم عن العلمانية، بالقول: ومن قال إنّني علماني!
ومن جهة ثانية، قال هيثم المالح في جلسة عامة في إمارة الشارقة رداً على سؤال عن علاقته بالمجلس الوطني السوري إنّ الدكتور برهان غليون أرسل له قبل يوم واحد عبر موظفة في قناة «العربية» ما مفاده أنّ المجلس مستعد لتسليمه اللجنة القانونية فيه!
الأخطاء والحالات السابقة، مضافةً إليها تراشقات وتخوينات المعارضة السورية بعضها لبعض علناً وسراً، قد فتحت الطريق للجمهور لكي يتعلم الإقصاء بدل الحوار، والرشق بالبيض بدل العمل لفهم ماذا يقول المختلف عنا.
ولعلنا نتذكر كلنا في بداية الازمة كيف كان الجمهور ينظر باحترام للمعارضة, بينما لا يتمكن مئة سوري الآن من الاتفاق على اسم واحد، وذلك لأنّ هذه المعارضة علمته وتشاجرت أمامه وخونت بعضها بلغة لا ديموقراطية، فأعاد لها على طريقته، ما تلقفه منها عند أبواب الجامعة العربية، من دون أن يعني ذلك أنّ الشارع السوري هو كذلك حقاً، بل هؤلاء يشبهون معارضتهم.