ذات يوم .. كان في دمشق ترامواي!!

ترام في شارع الصالحية

تيسير أحمد- شام نيوز

 

من يجوب شوارع دمشق هذه الأيام يعجب من الفارق الكبير بين المظهر الحضاري الذي تعكسه صور دمشق في عشرينيات وثلاثينيات واربعينيات القرن الماضي، وبين مظاهر الفوضى والازدحام التي تميز هذه الشواع اليوم.
جوانب الشوارع والأرصفة والأزقة والردهات كلها محشوة بالسيارات، بحيث أصبح النزول إلى وسط المدينة عقوبة للسائقين والمشاة والمواطنين الذين ابتلتهم الأيام بالسكن في وسط المدينة، بعد أن كانت مساكنهم القريبة من كل شيء محط حسد من ساكني الضواحي، فانقلبت الاية ومعها الحسد.

مع دخول الكهرباء إلى دمشق أواخر القرن التاسع عشر دخلت فكرة الترام، حيث تم الاتفاق في عام 1889 م بين أحد المستثمرين وهو يوسف مطران وبين وزير الأشغال (النافعة) في الدولة العثمانية بتاريخ 5 كانون الأول عام 1889 م على إنشاء الترام في مدينة دمشق، وتم تأسيس الشركة المسؤولة عن تنفيذ مشروع الترام.
وتم الاتفاق على إنشاء خطوط الترام في مدينة دمشق وخطط لتمديد خط من وسط المدينة نحو المنطقة المسماة باب الله (القدم) في نهاية حي الميدان والى جامع الشيخ محي الدين بن عربي في حي الصالحية والباب الشرقي ومسجد الأقصاب وبعد ذلك إلى دوما.
وبقي هذا المشروع دون تنفيذ حتى كانون الأول من عام 1904 م، حيث تم تأسيس شركة تحت اسم الشركة العثمانية السلطانية للتنوير الكهربائي بدمشق التي تقع في زقاق الصخر أي مؤسسة الكهرباء
حالياً، وتم وضع مشروع شامل لخطوط الترام وعربات الترام بين مناطق وأحياء دمشق. وقامت بتنفيذ هذا المشروع شركة بلجيكية متخصصة برأسمال ستة ملايين فرنك وزعت على عدة آلاف من الأسهم.
وكان هذا المشروع يتضمن إضافة لإنارة دمشق بالكهرباء وبقدرات عالية لتسير عربات الترام وتنفيذ ومد خطوط الترام في المدينة، وتم مد خطوط الترام بدءاً من منطقة الفردوس إلى حي الميدان وحي الصالحية والى مناطق المهاجرين والقصاع ودوما حسب مخطط الترام الموضوع سابقا في أحياء المدينة.
وتوالى فتح خطوط الترام بعد ذلك إلى دمشق القديمة وارتبطت غالبية مناطق دمشق بشبكة من سكك الترام، حيث كانت عربات الترام تجوب شوارع وأحياء المدينة.

وكان دخول عربات الترام نقلة نوعية في حياة دمشق المتعطشة للتحديث، بعد أن كانت عربات الكروسة التي تجرها الأحصنة والبغال تجوب شوارعها بشكل اعتباطي، مخلفة الفوضى والضجيج.
وفي الفترة نفسها تقريباً دخلت دمشق عالم القطارات للسفر البعيد، وبذلك شعرت دمشق بأنها مدينة حديثة، شأنها شأن المدن العريقة في أوربا، ومن يتأمل صورة لساحة المرجة والترام يقف فيها يظن نفسه في مدينة برلين أو لندن أو باريس في بداية القرن.

 

ترام في ساحة المرجة

كانت مرحلة الترام، مرتبطة بصعود حركة دائبة لتحديث دمشق، وكانت الطاقة الكهربائية عنوانها البارز، ولذلك نشأت الأحياء الراقية المبنية وفق الطرز المعمارية الحديثة على جانبي خطوط الترام، كان ثمة مدينة تولد من رحم تلك المرحلة، هي نفسها المدينة التي نراها اليوم في شارع العابد والبرلمان والمرجة وشارع بورسعيد والمهاجرين والصالحية، وقد بدت ابنيتها شاهدة على عصر ذهبي يذكرنا بالمدن العريقة حول العالم. والتي ما تزال تحتفظ بألقها وقدمها الجميل.

ولكن ياللهول.. قررت حكومة الانفصال عام 1962، وضمن عدد كبير من قراراتها غير المفهومة، تصفية شركة الترام، واستبدال هذه الوسيلة الحضارية الخالية من التلوث، بالحافلات التي تعمل على المازوت، والتي بدأت منذ لك الوقت تنفث سمومها على أبنية المدينة محولة لون الحجارة الجميل إلى لون رمادي كالح.


الترام والاضراب الستيني

ترتبط بعض الأحداث المهمة في تاريخ سوريا بالترام، فالاضراب الستيني عام 1936 والذي قاد إلى استقلال سورية فيما بعد بدأ بعد قرار رفع أجرة الترام نصف قرش، حيث أقدمت الشركة البلجيكية المشغلة للمشروع على هذه الخطوة التي باركتها سلطات الانتداب الفرنسي يومها، وهو ما أثار حفيظة الوطنيين السوريين وعلى رأسهم فخري البارودي الذي دعا إلى القيام بحملة احتجاجات ضد السلطة الفرنسية المنتدبة واندلعت شرارة المواجهات وامتدت سريعا إلى مختلف المحافظات السورية وامتد هذا الإضراب قرابة الستين يوما لذلك أطلق عليه الإضراب "الستيني " حيث امتنع الموظفون عن الذهب إلى عملهم وأغلقت المحال أبوابها وقامت مجموعة من الطلاب بالوقوف على جسر فكتوريا لمنع وصول الطلاب إلى الجامعة، وصارت مجموعة أخرى من الطلاب أيضاً تنشر قوائم سوداء تضم أسماء الطلاب الذين يداومون في الجامعة.
وتوج الإضراب بإسقاط حكومة تاج الدين الحسني وشكلت وزارة في (24 /2/1936) برئاسة ( عـطا الأيوبي ) لتدير المفاوضات بين الكتلة الوطنية وفرنسـا بعد أن أيقنت فرنسا أنه لا سبيل أمامها سوى اللجوء إلى المفاوضات وتكوّن وفد من الكتلة الوطنية برئاسة هاشم الأتاسي وسعد الله الجابري وفايز الخوري وعبد الرحمن الكيالي وعفيف الصلح.. وجرت المفاوضات بين الكتلة الوطنية والمفوض السامي للانتداب دومارتيل يوم 28 من شباط 1936م في مدينه بيروت حول إيقاف الإضراب وبحث القضية السورية وهو ما قاد إلى معاهدة 9 أيلول 1936‏‏ والتي اعترفت فيها فرنسا يباستقلال سورية كدولة مستقلة.