رجال برسم الانقراض

هل كان مجرد رجل أعمى يواجه عصابة مبصرين، فيُطوِّح بيديه، على غير هدى؟.. كلا؛ فلم تذكر كتب التاريخ أن عنترة العبسي كان أعمى، إذن فماذا حدث حين انتقل هذا الفارس ليجوب شوارع عمان، فيصرعه الخصوم على أرضها؟
أما فكرة انتقال عنترة إلى هذا العصر، فقد تمخضت عن نخوته حين سمع أحد أحفاد نسله في العصر الحديث، من "العميان"، يستجير به، صارخا "واعنترتاه"، بعدما مرغ الخصوم أنفه بالإسفلت.
ومما زاد من جموح عنترة ونخوته، أنه وقع على بحث علمي، أثناء إحدى غزواته، أجرته إحدى المراكز المتخصصة الأجنبية، مفاده، أن نسبة العقم لدى الرجال آخذة بالازدياد، ومرجحا أن تصل النسبة، في العام 2050، إلى 50 % ، فجن جنون عنترة، لأن هذا يعني، عمليا، أن ثمة أخطارا حقيقية تتهدد رجال العالم، في صميم فحولتهم وذكورتهم، ولذا بات لزاما عليه أن يهب لنجدة الرجال، مهما كلفه ذلك من ثمن، متنازلا عن معشوقته "هبلة"، التي سمحت له بالرحيل، وعن حريته التي وعده عمه بها إذا أبلى بلاء حسنا في غزوته المقبلة ضد إحدى القبائل، تحديدا. وأبلغ عمه أنه ذاهب "لغزوة الغزوات"، هذه المرة، ولن يرجع قبل أن ينقذ "الفروسية" ذاتها المهددة بالانقراض.
دخل عنترة عمان، حذرا، متلفتا، ويده على مقبض سيفه، خشية أن يؤخذ غيلة من حيث لا يحتسب.
باغتته تلك الوداعة التي تَلُفُّ المدينة عن آخرها، ولم يدر من أين يبدأ عملية البحث، وسط هذه الأزقة والمنعطفات المناقضة، تماما، لامتداد الصحارى الذي اعتادت عليه عيناه، في مضارب بني عبس.
ولم يطل بحثه عن "ساحة الوغى"، حين تلقى الضربة الأولى على رأسه، من شبح متناه في الصغر، أطاح به أرضا، لكنه نهض واستل سيفه، وراح يطارد الشبح الذي سرعان ما اختفى، ولم يكن يريد أن يصدق، أن الشبح لم يكن أكثر من ورقة مستطيلة، من تلك الأوراق التي "تطب" على الرأس شهريا، والتي لا تنفع معها شتى ضروب "الفروسية" للإطاحة بها، لأنها في النهاية تهزم أعتى "الشنبات"... باختصار، لأنها "فاتورة" كهرباء.
ثم جاءته لطمة أخرى من ورقة مماثلة، لم يكن يريد أن يصدق، أيضا، أنها "كمبيالة" طائرة، لا مجال لهزيمتها، ولو بسيوف الهند ورماح السند كلها، لأنها، أيضا، واجبة الدفع من قبل أشجع "الفرسان".
وتتالت الضربات على رأس عنترة، لكنه ما يزال يأبى تصديق أن "الرجولة" تنسحب من أجساد الرجال، رويدا، رويدا.. تسحبها قبضات هلامية، لا ترى بأعين "الفرسان".
وما يزال عنترة يرفض تصديق أن "الرجولة" هي مُكوِّنات ذهنية ونفسية أكثر منها بيولوجية، وأن فقدانها يعني، بالنتيجة، ضمور حتى المظاهر البيولوجية التي تميز الرجال، لا سيما حين يجدون أن أدوارهم في الحياة لم تعد مركزية، لأسباب شتى، لا تبدأ بعصف التكنولوجيا، التي "تنفّس" العضلات، أو مرورا بغزوات "الأشباح" المجسدة بسلسلة لا نهاية لها من الفواتير والمطالبات، التي تحني أعلى الهامات طولاً، ولا تنتهي، بالقبضات "الناعمة"، التي تسحب بساط "الحلبة" من تحت أقدام الرجال، مزاحمة إياهم حتى على "قفّازاتهم"، ولا بتجميد الحويمنات المنوية في المختبرات، بدلا من أجساد الرجال "المجمدة" أصلا، في عصر "الخصخصة"، الأمر الذي يشعرهم، دوما، بضآلتهم، وانخفاض مدى الحاجة إلى "رجولتهم".
كل هذا وأكثر لم يرد أن يصدقه عنترة، بل ظل مصرا، أن يركب رأسه، ويطارد تلك الأشباح التي اجتمعت عليه، وراحت تكيل له "الطعنات"، من حيث لا يتوقع.
وهاهو الليل قد انجلى تماما، وما يزال يشاهد عنترة "الأبله"، خالعا كنانته، وملقيا سيفه أرضا، بعد أن قرر أن يواجه "قبيلة" الأشباح، بيديه العاريتين، لاسيما أنه اكتشف أن لا السيف ولا الرمح، ولا حتى "المسدس"، تجدي نفعا معهم. وها هو يُرى، الآن، وهو يُطوِّح بيديه يمينا وشمالا كالمجنون، محاولا اتقاء الضربات التي لا يعرف مصدرها، بعد أن أصبح، فعلا، أعمى يواجه عصابة مبصرين.
أما "هبلة" فما تزال بانتظار عنترة.
باسل طلوزي
الغد الاردنية