رحلة الاقتصادي السوري محمد سعيد الزعيم إلى المملكة الليبية المتحدة عام 1957

تيسير خلف- شام نيوز
تكتسب رحلة الاقتصادي السوري البارز محمد سعيد الزعيم إلى ليبيا عام 1957 أهمية خاصة كونها تعد واحدة من الشهادات القليلة حول ليبيا بعد الاستقلال وقبل "ثورة" القذافي.
في هذه المرحلة الدقيقة كانت ليبيا تتلمس خطواتها نحو البناء وتكريس وحدة الاقطار الثلاثة برقة وطرابلس وفزان، التي شكلت المملكة الليبية المتحدة.
هنا مقتطفات من هذه الرحلة:
من مصر إلى ليبيا
تركت الإسكندرية صباح الجمعة الباكر في 29 تشرين الثاني 1957 مع السيد عبد الحميد شومان مؤسس البنك العربي بسيارة ميممين شطر المغرب، في يوم هائج تفتحت فيه أبواب السماء بوابل من الغيث المدرار، سالت منه الوديان وحول الصحراء إلى بحيرات متصلة بعضها ببعض طوال طريقنا، وكان البحر الأبيض المتوسط عن يميننا. مررنا أولاً ببرج العرب ثم بالحمام ثم بالعلمين وبينها وبين الإسكندرية مائة وخمسة كيلومترات.
ومن منا لا يذكر العلمين وما يثيره هذا الاسم من ذكريات مرسومة بالأذهان، ذكريات الأيام المشؤومة من الحرب العالمية الثانية، عندما اشتد أوار المعركة في أراضي مصر، واشتبكت جيوش ضخمة في معركة الحياة أو الموت، وتعلق مصير الأمم في ميزان الأقدار.
العلمين
تقع العلمين على شريط ساحلي يصل الإسكندرية بمرسى مطروح ويبلغ طوله 290 كيلومتراً، وقد شهدت رمال صحرائه معركة من أشهر معارك الحرب الأخيرة، كما شهدت من قبل عظمة الإسكندر وروعة كيلوباطرة ونمو الإمبراطورية الرومانية وفتوح العرب للشمال الإفريقي. وهذا الموقع الذي وصف بأنه من أشهر ميادين القتال في العالم أجمع، الذي وقف عنده البطل الداهية رومل ثعلب الصحراء، والذي رفع مونتغومري إلى مصاف القادة العظماء، هو ذاته كان ممراً من قبل لقادة العرب والإسلام مثل عمرو بن العاص وعبد الله بن سعد وعقبة بن نافع وموسى بن نصير ومن تبعهم من الذين جعلوا الأبيض المتوسط في يوم ما بحيرة عربية وكان من قبل بحيرة فينيقية أو رومانية.
وقفنا في العلمين عند الأثر التذكاري القائم على إحدى الهضاب، لتعود بنا الذكرى إلى الماضي القريب، نسرح الطرف بتلك النصب والصلبان فوق قبور أولئك الذين لاقوا حتفهم في معارك طاحنة، كانت الشرور وأطماع البشر رائدها، فنسائل تلك الأخشاب الناطقة بأسماء الراقدين من تحتها، عما أوحت به إليها بقايا ساكني هذه البقعة الموحشة، وقد قضوا بعيدين عن ذويهم وأبنائهم وأوطانهم، وتحبيبنا ضحايا الإنسانية المعذبة، إنها ليست إلا قافلة سبقتها وتلحق بها قوافل من قديم الزمان وإلى ما يشاء الله، في طريق اللانهاية، هي حصيلة الأطماع والجرائم الغريزية تلطخ جبين ابن آدم إلى الأبد بسيماء الآثام والعدوان.
السلوم
وبعد العلمين مررنا بالضبعة ثم بسيدي براني إلى مرسى مطروح، ذات الصلة الوثقى بحرب الصحراء، وعلى جانبي الطريق إليها، أشلاء أدوات الحروب المحطمة من دبابات وسيارات وأسلاك شائكة مبعثرة هنا وهناك، على سهول زانتها الطبيعة بجمال الصحراء، ومياه البحر الزرقاء الصافية تقبل رمال الشاطئ البيضاء برفق وحنان، كما أن أنطونيو وكيلوباطرة يسطران بتلك البقاع قصة حوادثهما التي ذهبت مثلاً وتاريخاً ونشيداً للحب على مر الزمان.
وبعد أن تزودنا بالوقود وأقواس قزح تحيط بنا فوق البحر وفي الأفق البعيد من الصحراء، توجهنا نحو السلوم وهي آخر حدود مصر وتبعد عن الإسكندرية 518 كيلومتراً، لنجري المعاملة الجمركية ومعاملة الجوازات. وكان الوقت ظهراً، وقد لقينا من السلطات المصرية كل ترحاب وإكرام وودعنا بتمنيات عذبة طيبات.
طبرق
وتركنا السلوم وصعدنا مرتفعاً جبلياً على الساحل أيضاً لنصل إلى الحدود الليبية، ولنشهد المعسكرات التي أقامها موسوليني، لتكون مقراً وممراً لجيوشه إلى مصر وسورية وهي الآن خاوية خالية. وبلغنا أول مركز ليبي يخفق عليه علم ليبيا، الذي يرمز إلى الشعار السنوسي والأقطار الثلاثة التي تؤلف المملكة الليبية المتحدة: برقة وطرابلس وفزان وفي وسطه الهلال والنجمة، وهذا المركز يسمى امساعد، أقرضنا حكمداره صفيحة من الوقود أعدناها لأمره في طبرق. ويبعد مركز امساعد عن السلوم 14 كم ومن بعده وبعد اجتياز 145 كم في طريق كلها معبدة، وصلنا طبرق المدينة الجميلة الصغيرة الرابضة على خليج باسمها ترسو به بعض السفن، وعلى جنبات المرفأ يقع قصر الملك إدريس الأول ملك ليبيا الذي يقيم فيه.
والحديث عن طبرق يعود أيضاً إلى ذكر معارك الصحراء التي كانت للفريقين المتحاربين معارك كر وفرّ ونصر وهزيمة لا تزال آثارها بادية للعيان. ويعتبر خليج طبرق من أمنع المواقع في حوض الأبيض المتوسط، بفضل التحصينات التي أنشئت فيه خلال الحرب الأخيرة.
ويفضل الملك إدريس طبرق على غيرها بسبب هدوئها ودفئها وقربها من صحراء برقة مرابع طائفته وجماعته. وما أجمل غروب الشمس في طبرق بين البحر والصحراء، فلقد كانت روعة الطبيعة آخذة بالخيال الذي كان يتجه بنا نحو ماضي هذه البلاد العربية الشقيقة العزيزة.
درنة
بعد سير ساعتين ونصف من طبرق مساء، قطعنا خلالها 170 كم، وصلنا درنة وقد نزلنا إليها من الصحراء انحداراً حتى بلغناها على البحر، وحللنا في فندق أسسه الإيطاليون وسموه باسم الجبل الأخضر، روضة ليبيا الغناء، فنكون قد قطعنا في ذاك اليوم 850 كم.
وأفقنا في الصباح الباكر، نتفرج على معالم المدينة التي كثيراً ما ذكرت في حروب طرابلس وبرقة بين الأتراك والبرقاويين والطليان، والتي تشع منها مظاهر الحياة الحديثة حيث لا تزال فيها جالية إيطالية، كما أن فيها تجارة ومتاجر ومكتبات عربية. وتحيط بدرنة من جهة الجبل بقايا سور حديثة بناها الإيطاليون لصد هجمات المدافعين العرب الأحرار القادمين من الصحراء.
بنغازي في السيتينات
الجبل الأخضر ـ بنغازي
بين درنة وبنغازي 300 كم اجتزناها بأربع ساعات من الزمن، ولكنها بما تركت في أذهاننا من ذكريات، إنما اجتزنا تاريخ قرون وقرون. فلقد رحنا من درنة نصعد إلى الجبل الأخضر، في طريق معبدة أحسن تعبيد، وهندستها تدل على كفاءة نادرة والأشجار الحراجية تكسو الآكام والحزون، وقد أقام الإيطاليون في الجبل الأخضر مزارع منظمة يستثمرها العرب اليوم، ولكن فلاحتهم كلها بدائية بوساطة الجمال والحمير والأبقار.
ويحوي الجبل آثاراً ظاهرة من بقايا الإغريق، وتستعمل مراكز إصلاح الطرق التي تركها الإيطاليون مدارس لتعليم أبناء القرى، وما أجمل قوافل الطلاب الفلاحين في الصباح تمشي زرافات ووحداناً لانتهال مناهل العلم والعرفان. وسكان الجبل هم من بقايا قبائل بني سليم الذين توارثوا عن أجدادهم الحياة بعاداتهم القبلية وتربية الماشية.
مررنا بالبيضاء وهي مصيف الملك، من أجمل المدن في الجبل معروفة بأبنيتها البيضاء والغابات المنتشرة من حولها ثم مررنا بمسة واجتزنا جسور وادي الكوف العظيمة ذات العلو الشاهق التي تصل بين جبلين في وادٍ سحيق، وهذه الجسور من إنشاء الإيطاليين. ثم مررنا بالبياضة ثم بمدينة المرج وتحيط بها سهول منبتة متصلة بالساحل إلى أن وصلنا بنغازي مدينة برقة الجميلة المنسقة أحسن تنسيق وحللنا في فندق البرنيتشي الضخم الذي يدار اليوم لحساب البلدية، وقد بناه الإيطاليون على مرفأ المدينة في موقع جميل جداً.
تعد مدينة بنغازي ستين ألف سنة، وتعد من أجمل مدن ليبيا، فيها مطار مدني وآخر بريطاني، وحيث أن نظام المملكة يقضي بتناوب مركز الحكومة الفدرالية بين طرابلس وبنغازي كل عامين، فقد صادف وجودنا هناك انتقال الحكومة العليا بوزرائها ونوابها ومحكمتها الأولى إلى بنغازي. وسهلت لنا الدعوة الكريمة التي دعا إليها السيد عبد الله حامد السنوسي ابن عم الملك الوزارة جميعها لحفلة غداء في بيته العربي الكبير، إلى التعرف برئيس الوزراء السيد عبد المجيد كعبار وإلى سائر الوزراء، وكلهم من الشباب النير، وإلى التزود بكثير من المعلومات المختلفة.
وبنغازي خمائل أشجار الزيتون من طرف وزرقة البحر الصافية من جهة أخرى. تحوي المدينة الكثير من الصناعات اليدوية ولاسيما النسيجية، والبعض منها صناعة سورية الأصل، نقلها إلى ليبيا تجار وصناع سوريون أذكر منهم السادة آل خزام الحلبي المنبت. وليس في بنغازي صناعات كبيرة آلية تذكر، ولكن فيها بعض الصناعات من أثر الإيطاليين. وغرفتها التجارية غرفة ناهضة تدعى لدعم الصلات التجارية مع الخارج، ورئيسها السيد عوض لنقي من كرام الأسر البرقاوية. ويُبنى في بنغازي الكثير من دور الحكومة الليبية المركزية، كما يقام فيها أثر تذكاري كبير فخم للشهيد عمر المختار، يليق بذكرى سيد شهداء ليبيا، أوصى به الملك إدريس وفاء لحق هذا الرجل الأبي العظيم على الوطن الليبي.
طرابلس الغرب في الخمسينات
طرابلس الغرب
غادرت بنغازي في الساعة الثانية بعد ظهر الاثنين 2/12/1957 من مطار بنينة الذي يبعد عن المدينة سبعة عشر كيلومتراً، على متن طائرة شركة مصر للطيران في وسط سماء غائمة متلبدة متكهربة. وبعد ساعتين وأربعين دقيقة نزلنا في مطار إدريس، وبعده عن مدينة طرابلس الغرب 29 كم. والطريق بينهما آية في الجمال تسير وسط بحر من غابات الزيتون والكرمة.
البلدة جميلة جداً وعدد سكانها يتراوح بين 180 و200 ألف نسمة. يتجلى فيها العمران الحديث، أوجد فيها الإيطاليون ساحات عامرة وأسواقاً منسقة جامعة، وشوارع عريضة منظمة فهي مدينة أوروبية وبها قصور ومنازل ضخمة فخمة ذات حدائق غناء، ومنظر الكورنيش على البحر بين أشجار النخيل بهي وأخاذ. أما المدينة القديمة داخل السور فإنها تحافظ على طابعها الشرقي الجميل. والسور المحيط بها يعود بتاريخه إلى الفينيقيين والرومانيين والعرب والإسبان والأتراك، وزرت مبنى إدارة البنك الليبي الوطني داخل السور، وهو بنك الإصدار مبني بالمرمر المختلف الألوان وهو في هندسته وعظمته تحفة غالية. وفي المدينة القديمة أسواق مسقوفة كأسواق حلب ودمشق لبيع الصناعات المحلية من نسيج وجلود وغيرها.
ومن القصور الكبيرة في طرابلس قصر الخلد وهو القصر الملكي اليوم، وقد كان مقراً للماريشال بادليو. بناه الإيطاليون على الطريقة المغربية الأندلسية فجاء عجباً سخر له بناته مهرة الصناع الإيطاليين وأعطوه منتهى حذقهم الهندسي والبنائي وفرشوه بأغلى الرياش، وفيه حديقة غناء تحاكي أعظم حدائق القصور الملكية في أوروبا. وقد زرت والي طرابلس السيد طاهر باكير، وهو رجل فاضل ومن قدامى رجال التعليم، وقد قضى في دمشق ثماني سنوات مهاجراً عن بلده وهو يحفظ لسورية كل جميل. كما زرت الغرفة التجارية التي أسسها الطليان ويديرها اليوم التجار العرب وهي غرفة فخمة ذات أثر كبير في التوجيه الاقتصادي ويسعى رئيسها والأعضاء للأخذ بأيدي التجار الليبيين ليحتلوا المكانة اللائقة بهم، كما أن لهم جهوداً كبيرة في توثيق عرى الصلات القومية والأخوية مع البلاد العربية كلها، وقد لقيت منهم ومن ممثليهم في البرلمان كل إكرام وحفاوة وود صادق.
ومن الكلمات المألوفة في طرابلس كلمة باهي بمعنى جيد، ومازال بمعنى أيضاً أو تابع، وراجي بمعنى انتبه أو تأنَّ. وفي المأدبة المنزلية التي أقامها لنا السيد علي نور الدين الفكيني من كرام الأسرة المجاهدة الليبية قدم الطشت والإبريق على مائدة الطعام لغسل الأيدي بالصابون حسب العادات المحلية، وقدم لنا الشاي ثلاث مرات عقب الأكل.
وتضم المدينة فنادق ضخمة من الدرجة الأولى، منها فندق المهاري وقد أكرمنا فيه رجال غرفة التجارة بمأدبة كريمة، وفندق كراند أوتيل وكلها مبنية على البحر، وتحوي كل وسائل اللهو، وهي ملقى رجال الطبقات الراقية في طرابلس. وبالقرب من طرابلس المطار الأمريكي الضخم، وكانت الطائرات النفاثة دائمة الحركة فيه. وقمت بزيارة لمبنى البرلمان الليبي، بصحبة الأخ الصديق السيد عبد العزيز الزقلعي نائب طرابلس، وهو مبنى جامع لمجلس النواب ومجلس الشيوخ، وكان يوم الزيارة معداً نفسه للانتقال إلى بنغازي.
طبيعة ليبيا
تبلغ مساحة ليبيا 1.750.000 كيلومترا وسكانها نحو المليون وربع المليون، منهم 6 ـ 7 آلاف يهودي هم دون تابعية حالياً. ومعظم الأراضي الليبية صحارى شاسعة، وكثبان متنقلة، ولكنها لا تخلو من واحات أخصبها واحات فزان والكفرة وجغبوب كما أن بها هضاباً وجبالاً وبعضها صالح للزراعة. وأعلى قمة في جبال ليبيا ترتفع إلى 3150 متراً.
الزراعة الليبية
الحمضيات موفورة في طرابلس، ويقدر إنتاج البرتقال والليمون بحوالي 50 ـ 60 ألف صندوق يصدر منها عشرة آلاف فقط. أما عدد أشجار الزيتون فهو حوالي 7 ـ 8 ملايين شجرة، منها في الشواطئ الثلاثة أرباع وفي الجبال البقية. وثمانون في المائة من زيتون الشواطئ للطليان و5% لليهود و15% للعرب، أما زيتون الجبال فكله للعرب. وقدر إنتاج الزيت عام 1957 بنحو 18 ـ 20 ألف طن. وفي ليبيا ملايين من أشجار النخيل ويقدر الإنتاج منه في منطقة طرابلس بكمية 20 ـ 25 ألف طن، وفي فزان 7 ـ 10 آلاف طن.
تربية الأغنام والجمال
عدد الأغنام في ليبيا 180 ألفاً تقريباً والجمال 25 ـ 30 ألفاً والأبقار 40 ألفاً وهي مدار حياة القبائل ومعظم السكان العرب.
الأحوال التجارية والاقتصادية والمالية
بلغت أرقام الاستيراد في ميزان التجارة الخارجية عام 1956 مبلغ 16.601.000 جنيه، والصادرات 4.265.00 فيكون العجز 12.447.000 جنيه. وتبلغ قيمة المواد الغذائية نسبة 28% من مجموع قيمة الواردات، لأن الأرض الليبية لا تفي بحاجات سكانها من الغذاء.
ومن أهم صادرات ليبيا المواد الخام غير الصالحة للأكل وتبلغ نسبتها نحو 7/56%، كما أن منها الفول السوداني والمعادن ونبات الحلفا الذي يستعمل لصناعة الورق ولإنتاج مواد السيلولوز، ويقدر إنتاجه السنوي بنحو 35 ـ 40 ألف طن يشحن معظمها إلى إنكلترا.
وتحتل إيطاليا منصب الصدارة في التجارة مع ليبيا، تأخذ من الصادرات الليبية 2/38%وتورد لها بنسبة 9/29% من مجموع الاستيراد، وتليها إنكلترا.
وليس بين ليبيا والبلاد العربية تبادل تجاري يذكر، غير ما هو قائم بينها وبين مصر بفضل المعاهدة التجارية المعقودة بين البلدان المتجاورين. وتعتبر ليبيا ثاني بل بعد السودان يستهلك صادرات مصر من النسيج الذي يدخل معفياً من الرسوم.
أما التجارة بين سورية وليبيا فإنها لا تزيد عن 36 ألف جنيه ليبي منها 25 ألف ثمن مواد غذائية و11 ألف ثمن مواد مصنوعة. وتصدر ليبيا إلى سورية بمبلغ 7 آلف جنيه مواد خامية.
يقدر ميزان المدفوعات عام 1955 بـ 2.700.000 جنيه ليبي (إسترليني) والدخل القومي بـ 36.300.000 جنيه. وكانت موازنة الدولة لعام 1956 قد بلغت 8/6 مليون جنيه دخلاً، و1/6 مليون جنيه إنفاقاً، والنقد المتداول خمسة ملايين جنيه. وتتناول الحكومة الليبية إعانات مالية من الخارج لتغطية العجز في النفقات، وفي الميزان التجاري والحسابي.
وليبيا اليوم في بدء مرحلة التصنيع، والصناعة اليدوية هي السائدة في صناعة النسيج والجلود المزركشة والأواني النحاسية. أما الصناعات الحديثة فهي تتناول تحضير المنتجات الزيتية وصنع المعكرونة وتعليب الخضر والفواكه والأسماك وأهمها الطون والسردين، ويقدر محصول هذه الأسماك بنحو 6400 طن من الطون الضخم و13 ألف طن من المتوسط و28 ألف طن من السردين.
وقدر إنتاج القوى الكهربائية عام 1955 بحوالي 62 مليون كيلو واط ساعي.
مجلس الأمة في طرابلس الغرب
ومن المحتمل اكتشاف البترول في ليبيا. وفيها الآن عدد من الشركات الأمريكية والإنكليزية والفرنسية تقوم بأعمال التنقيب لهذا الغرض. ولم تجر حتى الآن أية دراسة جيولوجية للبلاد، غير أن الدلائل تشير إلى أنه لا يوجد هناك كبير أمل في اكتشاف ثروات معدنية.
تاريخ ليبيا
هاجر الإغريق إلى ليبيا حوالي سنة 700 ق. م وأقاموا حضارة زاهرة، وعمروا الأرض، وما برحت بقايا آثار شحات وغيرها تدل عليها. كما أن الفينيقيين اتصلوا بليبيا حوالي سنة 900 ق.م، وأقاموا لهم فيها مدناً عظيمة، وما تزال بقايا لبدة أيضاً تشهد بعظمتهم محتفظة بطابع الجمال التي انفردت بها دون المدن الأثرية.
وفي أواخر سني ما قبل الميلاد وأوائل الميلاد، أضحت ليبيا مستعمرة رومانية عظيمة حتى سنة 409م. عندما سيطر عليها (الواندال) الذي عاثوا في الأرض فساداً، وجردوا لبدة من محاسنها. ثم حكم البيزنطيون ليبيا منذ سنة 543 م. وبعد مائة عام تغلب العرب على إمبراطورية الإسكندرية، وقاد عمرو بن العاص سنة 22 للهجرة العرب لفتح ليبيا، فسلم له أهالي برقة وفتح عقبة بن نافع زويلة من مدن فزان القديمة.
وفي زمن عثمان بن عفان، إذن الخليفة لعامله على مصر عبد الله بن أبي سرح بفتح إفريقيا بوساطة جيش العبادلة المعروف الذي كتب له النصر المكين. وتوالت على طرابلس حكومات ودول إسلامية وعربية إلى أن ضعفت الدولة الحفصية، وازدادت شوكة الإسبان بعد طرد العرب من الأندلس، فاحتلت إسبانيا شمال إفريقيا ونزلت في طرابلس عام 1510م إلى أن ظهر حكم فرسان القديس عام 1535 ودام حتى الاستيلاء التركي الذي كانت طلائعه الهجوم البحري عام 1551.
العهد الإيطالي والجهاد القومي الليبي
في 29 أيلول 1911 أعلنت إيطاليا الحرب على تركيا، وفي شهر تشرين أول تعرضت ليبيا لأول غزوة إيطالية واحتل الإيطاليون أهم المدن الساحلية. وجاء من استانبول ضباط كبار مثل فتحي وأنور ومصطفى كمال وعزيز علي المصري، الذي قادوا فلول الجيوش التركية زمناً مع القبائل الليبية في حرب مع المستعمر، استشهد فيها الكثيرون من أبطال برقة وطرابلس.
وجاءت الحرب العالمية الأولى، فعاد الترك في غواصات ألمانية ومعهم نوري باشا أخو أنور، الذي اتصل بالسيد أحمد الشريف السنوسي والتحق به وكانت عاصمته جغبوب. وغرض الأتراك من حملتهم هذه إشغال الإنكليز في مصر من الجانب الغربي، وإشغال الإيطاليين عن حليفتهم النمسا. ولكن الخطة فشلت واضطر السنوسي للتخلي عن حكم برقة للسيد إدريس، وذهب الأول في غواصة إلى استانبول. وفي عام 1918 إثر انكسار الأتراك وتوقيع الهدنة وسفر واليهم عثمان والضباط الألمان، جمع سليمان باشا الباروني المجاهد الكبير، مؤتمراً قومياً في 16 تشرين الثاني 1918 في مسلاتة، وأسس جمهورية طرابلسية لها مجلس إدارة. وكانت إيطاليا تتظاهر بحب التفاهم مع الوطنيين، ولكنها نظرت إلى هذه الجمهورية في طرابلس وإلى إمارة إدريس السنوسي في برقة نظرة الخداع. وأخيراً تنكرت للاتفاقيات التي أجرتها مع المجاهدين وحنقت على البيعة الإجماعية، التي تمت في مؤتمر غريان للأمير السنوسي، فباشرت بأول إجراء حربي لاكتساح ليبيا كلها مرة ثانية. فاحتلت في تشرين الثاني 1923 ميناء قصر أحمد للوصول إلى مصراتة التي كانت فيها حكومة وطنية برئاسة أحمد السويحلي. وكان الجنرال غرازياني قد غدر من قبل ببطل جبل نفوسة العظيم خليفة ابن عسكر، وكان يتفاوض معه بأرض (الوطيه) فاعتقل وأعدم شنقاً في الزاوية عام 1922.
وعندما سافر الأمير إدريس إلى القاهرة لأمور صحية، وأناب لشؤون إمارته أخاه السيد الرضا، أسند قيادة الجيش بالوكالة عند للسيد عمر المختار، وكان من أشهر الأخوان السنوسيين علماً وتقوى، وإخلاصاً وشجاعة.
وبعد أن تفرغت إيطاليا من إنهاء المقاومة في طرابلس تحولت للاستيلاء على برقة، فلقيت من عمر المختار وجنده كل ثبات، وكانت أودية الجبل الأخضر وكهوفهُ وغاباته خير مسعف لهم بإفناء الفرق الإيطالية.
وفي سنة 1929 وفي زمن بادوليو والي ليبيا، الذي رأى أن فزان مهمة بالنسبة للعرب المجاهدين، أعدت حملة لاحتلال فزان، وبعد الجهاد المر، الذي قام به المجاهدون تمكنت الحملة من احتلال العاصمة مرزوق، وبذلك انتهت مقاومة فزان. وفي سبيل تطويق عمر المختار الخاضع لأوامر السيد إدريس في القاهرة، أجلا غرازياني والي برقة قبائل الجبل الأخضر عن أراضيها، وحصرها كلها في أراضي العقيلة، وهي صحراء ومجردة من الشجر والنبات والماء، وكان يقصد إبادتها مع مواشيها.
عمر المختار مع ثوار ليبيا
واستمر عمر المختار يناضل هو ورجاله الفدائيون إلى أن كانوا ذات يوم وقد نفد بتأثير الحصار المفروض عليهم كل قوت وذخيرة، عندما فوجئوا سنة 1931 بكمين إيطالي في بعض أودية مسة بالجبل الأخضر، فناضلهم عمر المختار وإخوانه حتى نفق جواده فسقط به على الأرض، وكان شيخاً قد جاوز الستين، فأسره الطليان وحوكم في بنغازي، وأعدم شنقاً بمحلة سلوق أمام القبائل رضوان الله عليه. وانتهت بنهايته آخر المقاومات المسلحة في برقة.
عمر المختار قبل اعدامه
وفي عهد الفاشيست صودرت جميع الأراضي الساحلية الخصبة من الليبيين، وجلب بادوليو عام 1935 عشرات الألوف من الأسر الإيطالية، حيث اقطعوا الأراضي للفلاحة، وبمساعدتهم عُمرت القرى وغرس الزيتون وكروم العنب واللوز وحفرت الآبار الارتوازية، وانتشر العمران في عموم ليبيا، وجهزت البلاد بالكهرباء وأنابيب الماء، كما مدت الطريق الساحلية في حدود تونس إلى حدود مصر وطولها حوالي 1900 كم، وقد جند الإيطاليون أهالي ليبيا عام 1935 لغزو الحبشة، ثم في الحرب العالمية الأخيرة لمقاتلة الحلفاء، وفرضوا على الأربع ولايات التي أوجدوها وألحقوها مباشرة بإيطاليا الجنسية الإيطالية، وكانت كل المشاريع العمرانية تقام لحساب ومنفعة المستعمرين دون أبناء البلاد.
واغتنم أحرار ليبيا المقيمين في الخارج فرصة الحرب الأخيرة لمواصلة الكفاح، فعقدوا مؤتمراً عاماً في القاهرة جددوا البيعة للأمير إدريس، وأقروا الانضمام للحلفاء لتحرير ليبيا، وكون في 30 آب 1940 الجيش الليبي في الخارج من 14 ألفاً. وبعد ضرب البارجة الإيطالية خطأ لطائرة المارشال بالبو في سماء طبرق وهو فيها مع صحبه، جاء من روما الماريشال غرازياني ثانية، وصار والياً مكان بالبو وكون جيشاً ليبياً كبيراً، كان من بينه ثمانون ألف ليبي. وبهذا الجيش هجم غرازياني على مصر حتى وصل سيدي براني، وهناك فاجأه الإنكليز في 9 كانون الأول 1942، بهجوم عام بقيادة المارشال وايفل الذي رد الطليان وأسر منهم ألوفاً، انضمت إلى جيش التحرير الليبي.
وواصل وايفل زحفه في أعقاب غرازياني المنهزم حتى احتل برقة، وبينما الإنكليز في العقيلة، فاجأهم من طرابلس مجيء الألمان بدباباتهم الضخمة، بقيادة المارشال رومل، فاسترد برقة واستولى على سيدي براني. وبعد معركة العلمين وانكسار الجيش الألماني والطلياني في معركة دامت اثني عشر يوماً، سارع الإيطاليون بالانسحاب من ليبيا إلى تونس، ومنها مع حلفائهم إلى إيطاليا، وبذلك انتهى الحكم الإيطالي في ليبيا، بعد أن دام نحواً من 32 سنة.
الحكم الوطني
وبعد الحكم الإيطالي، أسست في كل من طرابلس وبرقة حكومات عسكرية بريطانية، وفي فزان حكومة فرنسية عسكرية. وجاءت إلى ليبيا عام 1948 لجنة تحقيق مشتركة من أمريكا وروسيا وبريطانيا وفرنسا، وقد أجمعت ليبيا على إعلان رغبتها في الحرية والاستقلال، وبعد عدة مفاوضات أعلنت هيئة الأمم المتحدة في 21 شباط 1949، قيام دولة ليبية ذات سيادة في فترة لا تتجاوز أول عام 1952.
وفي 24 كانون الأول 1951 أعلنت الجمعية التأسيسية الليبية الاستقلال، وفي أول كانون الثاني 1952، تسلمت الحكومة الليبية جميع المصالح التي كانت تديرها الحكومات العسكرية، وأعلن البرلمان الليبي تنصيب الأمير محمد إدريس المهدي السنوسي ملكاً على ليبيا.
وسارت المملكة الليبية المتحدة في طريق الإنشاء وتعريب الدواوين، وما تزال جادة في سبيل التقدم والعمران ورفع مستوى السكان.