رحيل أربكان ..نهاية إسلام "العبارات الكبرى" في تركيا

برحيل نجم الدين أربكان، رئيس الوزراء التركي السابق، والزعيم التاريخي لتيار الإسلام السياسي في البلاد، لا تكون تركيا قد طوت صفحة شخصية سياسية شغلت الكثيرين منذ أربعين عاما فحسب، بل تكون قد ختمت مرحلة نموذج سياسي فريد في تاريخها المعاصر .

أربكان الذي ولد عام 1926 في مدينة سينوب التركية، وحصل على درجة البكالوريوس في الهندسة الميكانيكية من جامعة اسطنبول التقنية. أدى نجاحه الأكاديمي والعملي في ألمانيا، إلى سيطرته على أهم مصنع ألماني لصناعة محركات الديزل . ولدى عودته إلى تركيا في النصف الثاني من الستينات،  تم اختياره رئيسا للاتحاد التركي لغرف الصناعة . ومن ذلك المركز بدأ حياته السياسية في 1969، حيث اصبح نائبا عن مدينة قونية في البرلمان . وفي عامه البرلماني الأول، اسس حزب السلامة الوطنية . وأغلق الحزب في 1971 لكونه أعتبر "ضد العلمانية" عقب الانقلاب الشهير للجنرال جمال غورسيل .

بعيد إعادة الحياة البرلمانية عام 1972 ، شكل  أربكان حزب الخلاص الوطني،  وحصل على 48 نائبا في البرلمان في انتخابات عام 1973 . وحصل حزبه على المرتبة الثالثة في كل الانتخابات التي جرت بين 1973 - 1977 وانضم الى كل الحكومات الائتلافية في تلك الفترة من التاريخ السياسي التركي المضطرب . وكان أربكان نائبا لرئيس مجلس الوزراء في عام 1974 ، عندما تدخلت المؤسسة العسكرية التركية في قبرص  . ولكن تم اغلاق حزبه في عام 1980 بعد انقلاب 12 سبتمبر بقيادة كنعان أفرين .  وسجن أربكان في نفس العام، جنبا إلى جنب مع غيره من مئات السياسيين الأتراك .

في عام 1987 منع أربكان من ممارسة السياسة، وفي عام 1991 كون حزب الرفاه، ودخل الحزب البرلمان ب 40 نائبا، وشكل تحالفا سياسيا مع حزب الشعب الجمهوري . وفي عام 1995 حصل حزب أربكان على 21 بالمائة من أصوات المقترعين الأتراك، وترأس حكومة ائتلافية مع حزب الطريق القويم برئاسة تنسو جيلر . لكن الحزب حل بانقلاب أبيض قادته رئاسة الأركان التركية في شباط من عام 1997، سمي وقتها بانقلاب "ما بعد الحداثة" في الحياة السياسية التركية . ومن رحم حزب الرفاه ذلك، ولد حزب الفضيلة وثم حزب السعادة التركي الراهن، حيث عقد مؤتمره السياسي الأخير في كانون الأول من عام 2010، وفيه أبعد أربكان رئيس الحزب نعمان قرطموش من منصبه، وعاد ليتولى رئاسته، كي يوفر الجو المناسب ليتولى نجله فاتح أربكان الرئاسة من بعده، كما يقول الكثير من المحللين الأتراك .

أربكان الذي يبدو شخصية سياسية بالغة الهدوء في سلوكه السياسي، كان بالمقابل قد جمع بين حزمة من التباينات خلال تاريخه السياسي .

فأربكان كان شخصية سياسية هادئة وذو خلفية إسلامية، ومتشربة بروح تنظيمات الفرق الصوفية في البلاد . كان بالغ القسوة في التعامل مع ملفات السياسة الخارجية التركية . فهو كان صاحب موقف جريء عام 1974 حينما كان نائبا لرئيس الوزراء بولند أجاويد، وطلب منه بأن لا يكتفي باحتلال "تحرير" الثلث الشمالي فحسب من الجزيرة القبرصية، بل باحتلالها كاملة، وفرض حل بالأمر الواقع على السكان اليونان . كما أنه بقي طوال حياته رافضا التفاوض على عضوية الاتحاد الأوربي بشروط اضافية، كما ان القضية الكردية في عهود رئاسته للوزراء كانت تشهد فترات سخونة بالغة .

كما أن أربكان الذي كان قادما أوساط الصناعيين والتجار الأتراك، لم يكن يجيد لعبة التوازن مع المؤسسة العسكرية التركية، فكل الانقلابات العسكرية التي جرت في تركيا منذ السبعينات، كانت تجري في عهود يكون فيها حزب أربكان الحاكم أو الوصيف في الحياة البرلمانية التركية . فنهجه السياسي لم يكن بارعا في التميز بين الفضاءين الايدلوجي ونظيره السياسي، كما ينشط وريثه ومجدده السياسي، المتمثل بحزب العدالة والتنمية . فإسلام أربكان كان يتميز دوما بخيارات "العبارات الكبرى" في سياسته الخارجية ( يعتبر أربكان الأب الروحي لمنظمة المؤتمر الإسلامي ) .

وأهم تباين في تاريخ أربكان السياسي كان في جمعه الغريب بين خطاب شبه شعبوي وتعبوي وولائه الاقتصادي المطلق لإعادة هيكلة نمط الاقتصاد التركي، بما يتوافق مع شكل اقتصاد السوق المفتوحة، حيث سحقت طبقات واسعة من المجتمع التركي في عقد التسعينات من جراء تلك الهيكلة .فأربكان الذي كان يشار دوما إلى تفضيله لربطة العنق الذهبية التي ترمز لفئة "الخواجات" الأغنياء في تركيا، كان في منطقة محيرة حينما كانت تتفارق خياراته الطبقية والايدلوجية .

بالرغم من أن الظاهر بأن أربكان كان الأب الروحي للإسلام السياسي التركي، إلا أن موجة "تديين" الحياة الحزبية بتركيا كانت قد بدأت منذ أن اتاح حزب الشعب الجمهوري "الأتاتوركي" فتح الحياة السياسية بترك المجال أمام تكوين الأحزاب وإجراء انتخابات نيابية حرة . وبعد أن جرت أول انتخابات ديمقراطية في تركيا بداية الخمسينات من القرن المنصرم، وصل الحزب الديمقراطي التركي بقيادة عدنان مندريس إلى سدة الحكم في البلاد، وأبعد مبدئيا حزب الشعب الجمهوري، عن مقاليد السلطة التي كان يمسك بها منذ عشرينات القرن المنصرم، وأستمر حكم هذا الحزب الديمقراطي للبلاد قرابة عقد كامل للبلاد، حيث حدث الانقلاب الشهير والأول في تاريخ تركيا الحديث عام 1961، حيث أعدم رئيس الوزراء عدنان مندريس بدم بارد من قبل الانقلابين، بعدما كان هذا الزعيم السياسي قد أدخل تحولات نوعية على بنية الدولة التركية عموما، وبعد انقلاب 27 مايو ذاك، خلفه حزب العدالة الديمقراطي في قيادة البلاد، بتراض مع النخبة الكمالية والمثقفين العلمانيين في البلاد . وكان زعيمهم وقتئذ هو السياسي التركي المخضرم سليمان ديمريل، والذي سيصبح فيما بعد رئيس البلاد . لكن بالرغم من أنه جاء كنتيجة لذلك الانقلاب، إلا أن ديمريل قد راهن على نفس القوى الاجتماعية والاقتصادية التي كان الراحل مندريس قد راهن عليها من قبل .

ولذلك فان المؤرخين للحياة السياسية المعاصرة في تركيا يميزون بين شكلين من الإسلام السياسي التركي تاريخيا، يصعد كل منهما إلى سدة الحكم، حسب المصالح العميقة التي تقودها المؤسسة العسكرية في الخفاء .

فحينما تكون أيدولوجيات التيارات اليسارية خافتة، فأن المؤسسة العسكرية تساعد على صعود إسلام سياسي أكثر ليبرالية وأقل راديكالية في خطابه وبرامجه السياسية، حيث كان الزعيمان السياسيان التركيان تورغوت أوزال وسليمان ديمريل يمثلان هذا النهج . وفي مرحلة صعود تلك القوى السياسية اليسارية، فأن المؤسسة العسكرية التركية كانت تناصر التيار الأكثر شعبوية وخطابية في التيار الإسلامي التركي، لأنه كان دوما على قدرة وافرة لمقارعة التنظيمات اليسارية في عقر دارها . وكان كل من عدنان مندريس ونجم الدين أربكان ممثلي ذلك التيار . 

مقابل كل ذلك، كان يسجل لأربكان دوما، تحليه بروح السلم الاجتماعي والسياسي طوال فترات تدهور علاقته مع قوى الدولة الأخرى في تركيا، وبالذات مع مؤسستي الرئاسة وقيادة الأركان . فهو كان يفضل أن يبقى الخاسر الوحيد على أن يخسر الكل سوية .  فأربكان الذي رحل في 27 شباط، أي عشية مرور الذكرى الرابعة عشرة لانقلاب المؤسسة العسكرية على حزب الرفاه وعلى رئاسته الوزراء ووضعه قيد الإقامة الجبرية في 28 شباط عام 1997 . كان قد عرف عنه قدرته الأدبية البالغة في التعبير عن أفكاره السياسية، ويتذكره كل الساسة الأتراك باحترام بالغ، لأنه في ذلك الوقت فضل خسارته الشخصية والحزبية البالغة على أية ضرر كان يمكن ان يخيم على البلاد كلها، لو كان قد اختار الصدام مع المؤسسة العسكرية وقتها .  

 

 شام نيوز- رستم محمود