رزق الله عالعربيات..

 

 

 هيام حموي

 

طفلة... مجرد طفلة كانت... بل أكثر من ذلك، كانت طفلة شديدة الحساسيّة والهزال في تلك المرحلة من عمرها يوم اكتشفت وجود ذلك الجهاز الخشبي العجيب المستقر على عرش "الكومودينا" في غرفة الصالون، لا يحقّ لأحد من أطفال العائلة الاقتراب منه أو المساس به، فقط ربّ الأسرة يعرف كيف يجعل "الشياطين" المقيمة بداخله تنطق!!! هنالك دوائر نافرة من البلاستيك أو "الباغة" كما كانوا يسمون تلك المادة القابلة للكسر بسهولة، والتي كانت تتكوّن منها أزرار جهاز "الراديو"، هذه الدوائر هي المفاتيح التي تتحكّم بالصوت أو الأصوات التي تنبعث من داخل العلبة، والعلبة متوّجة بمزهرية أنيقة تحضن بداخلها باقة من الزهور الاصطناعية، وتحت المزهرية غطاء من خيوط الدانتيل المشغولة يدوياً بالمخرز، كما كانت الموضة آنذاك.


كانت هنالك مواعيد محدّدة، تجتمع فيها العائلة لممارسة طقس الاستماع، وقد بقيت في الذاكرة، عن ذلك الزمن أغنية تقول "اللي زرعتوا البرتقان يالله اقطفوه أوام أوام"، من أداء المجموعة، وأغنية أخرى: "القمح الليلة، ليلة عيده" لمحمد عبد الوهاب، أغنيتان فاتحتان للشهيّة قبل الفطور الصباحي، وقبل موعد نشرة الأخبار التي كانت تثير رعباً حقيقياً في نفس الطفلة المندهشة باستمرار مما تسمع. الرجل القارئ لنشرة الأخبار الصباحية كان يتحدّث بصوت جهوري عن "المراقبين الدوليين"... كان خيالها الهش يصوّرهم في ذهنها على أنهم رجال مقيتون يرتدون الصدرية البيضاء كالأطباء أو الممرضين ويمسكون بمناظير كبيرة يضعونها باستمرار على أعينهم لمراقبة أفعالنا، كانت تتمنى في سرّها أن "يموتوا همّاً"، وبأسرع ما يمكن، طالما أنها كانت تسمع الكبار يردّدون أن "من راقب الناس مات همّاً"!!!

كان الصوت الجهوري في الصندوق يتحدّث عن "دعوات لنزع السلاح"، فيما كانت ربّة العائلة تعاقب أبناءها لأنهم "نزعوا" ألعابهم بمعنى "خرّبوها"، وكانت ألعابهم تتضمّن أحياناً دبابة بلاستيكية أو مسدساً ملوّناً يرش الآخرين بالماء، وكانت هذه اللعب سريعة العطب، مما يثير الغضب لدى الأم، فتختلط الأمور على المخيّلة الطفولية.

حتى مفردات الأغاني كانت مثيرة للالتباس، فأغاني ذلك الزمان كانت مكتظة بفئة "العواذل"، وكانت الصغيرة الحالمة تفهمها "عوازل"، ويصوّر خيالها جدران فصل عازلة بين الحبيب والمحبوب، أو بين فئة وأخرى يستحيل التعايش بينهما لأسباب تتعلّق بالحسد والغيرة والحقد والجشع وحتى الفتنة الطائفية التي يمكن أن يوقظها أي عابر سبيل لا يهاب اللعنة!!!.

كانت صورة "العزول" (وفي واقع الأمر "العاذل" أو "العذول") حكماً في صيغة إنسان مذكّر، عابس دوماً، يرتدي السواد حصرياً، ويحمل عصا يفرّق بواسطتها بين الأحبة. أما إذا اجتمع مع أقرانه من العواذل فإنهم يتناقشون في كيفية تشكيل نقابة خاصة بهم، مقرّها بيت من أبيات إحدى القصائد الكلاسيكية العمودية، يتمّ التصويت بالأغلبيّة المعطـِّلة على اختيار شاعرها وبانيها، وفي موسم الإجازات يأوون إلى أجنحة مشيّدة خصيصاً في حيّ من أحياء الطقاطيق والأغاني المصرية. أما عن التعامل مع المهنة "العذولية"، فقد تبيّن أن بيانهم التأسيسي يحظر عليهم تناول أي نوع من أنواع الفلفل، لأن "الفلفلة" هي السلاح الأكثر فتكاً بالعواذل... في حين أن سلاحهم هو كيل اللوم والتخوين لكل المحبّين...


بلا طول سيرة، كبرت الطفلة الهزيلة، لم تعد هزيلة على الإطلاق لكنها حاولت عدم التخلي عن مخيّلتها، كبرت وأدركت أن "المراقبين الدوليين" لم يموتوا همّاً على الإطلاق، بل تكاثروا وتحوّلوا إلى ناشطين يستشرفون الأحداث عن بعد، أما الدعوة إلى "السلاح المنزوع" فقد  تطوّرت إلى دعوة للإنسان "المنزوع" بالمعنى الطفولي والمنزوع من أوطانه بمفهوم الكبار... ثم لاحظت أن العواذل انحسروا من الأغنيات، ربما  انقرضوا لأنهم لم يتمكّنوا من التكاثر بسبب غلبة الجنس المذكر على أعدادهم.

غير أن الطفلة نضجت فعلاً يوم سمحت لأحدهم أن يمدّ لها "لسان العرب" بسخرية علّها تفهم أن "العذول" ما هو إلا اللائم... فاستفاقت واستوعبت أن مهنة العواذل لم تنقرض، فقد عاد اللائمون وانتشروا بمسميّات جديدة في وسائل إعلام عصرية أغلب أسمائها أعجمية.
فكرت: يا ليتها لم تكبر، وفكرت أيضاً "رزق الله عالعربيات..."، وعلى العروبة!!!.