رسالة مفتوحة الى د. لميس جابر

الأستاذة العزيزة والكاتبة الكبيرة د. لميس جابر تحية طيبة وبعد. من المعروف أن الاستديوهات بصدد البدء في تصوير مسلسل محمد علي الذي تقومين سيدتي بكتابته وسيقوم ببطولته العملاق يحيي الفخراني، وما دمت سيدتي تصديت لهذا السيناريو فأنت مؤتمنة، وستحملين أمانة صياغة الوعي التاريخي لدى ملايين المشاهدين الذين سيتأثرون بمسلسلك، فأحببت ان اضع بين يدك بعض النقاط التي أرجو أن تجد لها مكاناً في هذا المسلسل، حتى لا ينتهي الأمر به إلى تجنيب الشعب في أحد أطغى الطغاة عبر تاريخه. - ان الجانب العمراني والعسكري من سيرة محمد علي هو وحده تقريباً المتداول والمنتشر بين الناس، حتى بين الكثير من المثقفين، بينما لا يعرف اغلب الناس مقدار البؤس والشقاء الذي عاناه المصريون طوال حكمه، تتحدث الكثير من الكتابات عن الترع التي شقها والقناطر التي اقامها وقليل منها تذكر شيئا عن عشرات الآلاف من الذين ماتوا في السخرة وهم يحفرون ويبنون، ودفنوا في مكانهم بعد أن قتلهم الجوع والمرض والعمل المجحف ليل نهار تحت سياط الباشا، وكثير من الكتابات تتحدث عن فتوحات محمد علي التي امتدت لثلاثين عاما وانتهت الى لا شيء، وقليل منها تتحدث عن حوالي مائتي الف مصري قتلوا في تلك الفتوحات في بلد كان تعداده وقتها نحو الخمسة ملايين. - وإليك الفقرة التالية من كتاب الجبرتي "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" يقول في أخبار شهر شوال عام 1234 - 1819 عن حفر ترعة المحمودية، وأمر "الباشا" حكام الجهات بالأرياف بجمع الفلاحين للعمل، فأخذوا في جمعهم، فكانوا يربطونهم قطارات بالحبال، وينزلون بهم المراكب، وتعطلوا عن زرع الذرة الذي هو قوتهم، ومات كثير منهم من البرد والتعب، وكل من سقط أهالوا عليه من تراب الحفر ولو فيه الروح!! ولمارجعوا إلى بلادهم للحصيدة طولبوا بالمال!! وزاد عليهم عن كل فدان حمل بعير، وأخذ ما يبيعونه من الغلة بالثمن الدون والكيل الوافر الوافر فما هم إلا وطلب العود للشغل في الترعة، المرة الاولى في شدة البرد وهذه المرة في شدة الحر وقلة المياه العذبة"، اي أن الباشا بعدما شغلهم بالسخرة في حفر الترعة، وكلما سقط منهم أحد أهالوا عليه التراب حتي ولو كان حياً، وعندما عادوا الى بلادهم للحصاد أخذ منهم حصادهم بثمن بخس وبالكيل الزائد، ثم أعادهم الي السخرة مرة اخرى، ويكمل الجبرتي في شهر ربيع الأول عام 1235 "ورجع المهندسون، والفلاحون الى بلادهم بعدما هلك معظمهم!!". - ويروي مصدر آخر هو مسيو مانجان عن هذا فيما أورده الرافعي مؤرخ مصر الكبير "مات في حفر ترعة المحمودية إثنا عشر الف فلاح في عشرة أشهر!!، هؤلاء الموتى دفنوا علي ضفتي الترعة تحت أكداس التراب الذي كانوا يرفعونه من قاعها، ومعظمهم مات من قلة الزاد والمؤونة أو من الاعانات في العمل وسوء المعاملة التي كانوا يلقونها من الجنود القساة المنوط بهم حراستهم وكانوا يجبرونهم علي العمل المهلك دون انقطاع"، وهذا مثال واحد في قائمة انجازات محمد علي، اثنا عشر الفاً ماتوا في حفر ترعة المحمودية وحدها، فتأملي يا سيدتي كم مات في سلم هذا الرجل ناهيك عن حروبه!! وأنت يا سيدتي مؤتمنة فهل يرد هذا في السيناريو؟! - هل سيرد في السيناريو النهب غير المسبوق الذي نهبه محمد علي لمصر، والذي صرف جزءا منه علي مشروعه التوسعي وكنز أغلبه لنفسه واسرته، هل سيرد في السيناريو أن محمد علي كان في السنوات الاولى من مشروعه "النهبوي" - قد طالب السيد عمر مكرم بوضع ختمه على عرضحال يبرر ضرائبه علي الشعب، فقال عمر مكرم (أما ما صرفه على سد الترعة، فإن الذي جمعه وجباه من البلاد يزيد علي ما صرفه أضعافاً كثيرة، وأما غير ذلك فكذب لا أصل له، وإن وجد من يحاسبه علي ماأخذه من القطر المصري من الفرض والمظالم لما وسعته الدفاتر)!!، تلك المظالم التي يقول عنها عمر مكرم انها لا تسعها الدفاتر كانت نتاج أول أربعة أعوام من حكمه، فكيف بباقي الاربعين سنة!! وكان لم يخل له الجو وبعد ولم يتوطد حكمه، فكيف وقد خلا له الجو وتوطد سلطانه، لقد تواصلت حالة النهب وزادت تلك الضرائب بعدها حتى وصلت حداً جعل الفلاحين المصريين - وفي ظاهرة نادرة عبر التاريخ المصري - يهجرون قراهم وأرضهم التي هي بمثابة العرض ويهجرون بلدهم ويفرون الى الشام وغيرها بعد أن جعلهم الباشا يزرعون الذرة ويتضرورون جوعاً ويزرعون القطن ويبيتون عرايا، وبالكرباج يشقون له الترع ولهم القبور، فهل سيكون لهذا البؤس الذي عاناه الفلاحون الذين يشكلون أغلبية الشعب المصري مكان في مسلسلك يا سيدتي؟! - هل سيرد في مسلسلك أن الباشا كان الصناع يعملون في مصانعه بالسخرة، تماما مثل الذين عملوا في شق الترع، حتي هرب كثير منهم من هذه المصانع وأصبحوا مطاردين من رجال الباشا. - كان الجبرتي متوازناً في حكمه علي محمد علي فقال راصداً انجازاته ومظالمه ولو وفقه الله لشيء من العدالة على ما فيه من العزم والرياسة والشهامة والتدبير والمطاولة لكان أعجوبة زمانه وفريد أوانه)، ويبدو أن بعض تلك الكتابات تسربت الى محمد علي (فشد أذن الجبرتي شدة بسيطة).. قتل ابنه الشاب!!، وانكسر الرجل بعدها ومات كمداً. فهل سيأتي هذا في مسلسلك؟! - لقد استذل الرجال مصر وأهلها كما لم يفعل أحد من قبله وسخر أهلها بالكرباج في أطماعه ومشاريعه كما لم يحدث منذ دخلها الاسلام، ووضع يده على أراضي مصر كلها وهذا ما لم يسمع بمثله حتى في عهود الفراعنة، ثم بدأ يقسمها علي محاسيبه، حتي قال حفيده بلسان المقال بعد أن قالها الجد بلسان الحال ( ما أنتم إلا عبيد احساناتنا)!، ولقد أدان القرآن الطغيان حتى ولو صاحبه نهضة عمرانية أو إدعاء حضاري وليسمع الذين يتحدثون عن باني مصر الحديثة قول الحق تعالي "ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد"، وقال تعالي "أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون"... هكذا يدين الرحمن الطغيان ولو اقترن بالعمران.. وللحديث بقية.
يحيى حسن عمر - الوفد
|