روسيا والثورات العربية والعالم المتغير

روسيا و العالم المتغير
لقد تطرقت إلى موضوع التحديات الخارجية الرئيسة التي تواجه روسيا في مقالاتي. ومع ذلك يستحق هذا الموضوع تفصيلا أكثر. ولأن السياسة الخارجية جزء لا يتجزأ من استراتيجية أية دولة، فإن التحديات الخارجية والعالم المتغير حولنا تجبرنا على اتخاذ قرارات في مجال الاقتصاد والثقافة والميزانية والاستثمار.
روسيا جزء من العالم الكبير من وجهة النظر الاقتصادية والثقافية ونشر المعلومات. لا يمكننا أن نبقى في عزلة ولا نريد ذلك. نأمل بأن يسهم انفتاحنا في زيادة رفاهية وثقافة مواطني روسيا ويعزز الثقة التي بدأت تصبح موردا نادرا أكثر فأكثر.
ولكننا سننطلق بشكل متتال من المصالح والأهداف الذاتية وليس من القرارات التي يتم إملاؤها من جانب الآخرين. تُقبل روسيا باحترام وتؤخذ بعين الاعتبار فقط إذا كانت قوية ومستقرة. كانت روسيا دائما تتمتع بالفعل بامتيازها في ممارسة سياسة خارجية مستقلة. وسيكون ذلك في المستقبل ايضا. وأكثر من ذلك أعتقد أن الأمن الدولي يمكن تحقيقه فقط مع روسيا، وليس عن طريق " حصرها في الزاوية" وإضعاف مواقفها الجيوسياسية وإلحاق الضرر بقوتها الدفاعية.
تتميز أهداف سياستنا الخارجية بطابعها الاستراتيجي وليس الانتهازي، وينعكس ذلك من خلال موقع روسيا الفريد من نوعه على خريطة العالم السياسية وفي دورها في التاريخ وفي تطور الحضارة البشرية.
إننا من دون شك نواصل نهجا نشيطا وبناء لتوطيد الأمن العام ورفض المواجهة والتصدي الفعال للتحديات مثل انتشار الأسلحة النووية والنزاعات والأزمات الإقليمية والإرهاب وخطر المخدرات. سنعمل كل ما بوسعنا لتأمين حصول روسيا على أحدث انجازات التقدم العلمي التقني وحصول رجال أعمالنا على مكان محترم في السوق العالمية.
سنسعى إلى إقامة نظام عالمي جديد ينطلق من الوقائع الجيوسياسية المعاصرة ، على ان يكون ذلك بشكل تدريجي ودون هزات غير ضرورية.
من يخرب الثقة
أعتقد أنه كما في السابق يوجد هناك ضمن أهم المبادئ الطابع غير المتجزئ لأمن جميع الدول ومنع استخدام القوة المبالغ فيها ومراعاة المبادئ الرئيسة للقانون الدولي. إن إهمال ذلك يؤدي إلى تفكيك استقرار العلاقات الدولية.
وعبر مثل هذا المفهوم بالذات نستوعب بعض نواحي السلوك للولايات المتحدة والناتو التي لا يقبلها منطق التطور المعاصر والتي تبقى معتمدة على عقلية الأحلاف. يفهم الجميع ماذا أقصد بذلك. توسع الناتو، بما في ذلك نشر عناصر جديدة للبنية التحتية العسكرية وخطط الحلف (الموضوعة في الولايات المتحدة ) الخاصة بإنشاء منظومة الدرع الصاروخية في أوروبا.
"الربيع العربي": دروس واستنتاجات
قبل عام واجهت العالم ظاهرة جديدة، مظاهرات متزامنة تقريبا في العديد من الدول العربية ضد الأنظمة الاستبدادية. "الربيع العربي" في الوهلة الأولى كان التطلع اليه بأمل إحداث تغيير إيجابي. وكان تعاطف الروس مع أولئك الذين سعوا إلى إصلاحات ديمقراطية.
لكن، سرعان ما أصبح واضحا أن الأحداث في كثير من البلدان بدأت تتطور في سيناريو غير متحضر. فبدلا من الديمقراطية، وبدلا من حماية حقوق الأقليات، يتم دفع الخصم والانقلاب عليه. أي عندما يتم استبدال هيمنة قوة واحدة إلى قوة أكثر عدوانية منها..
ان التدخل الخارجي الداعم لطرف واحد في النزاعات الداخلية ، وطابع استخدام القوة لمثل هذا التدخل ، هو الذي اضفى شكلا سلبيا على تطور الاوضاع . ووصل الأمر أن عددا من الدول وتحت ستار الشعارات الإنسانية وباستخدام الطيران أجهزوا على النظام الليبي. وفي قمة ذلك وبمشهد مثير للاشمئزاز لم يحدث في القرون الوسطى بل في العصور البدائية تم قتل معمر القذافي.
لا يمكن السماح لمن يحاول تنفيذ السيناريو الليبي في سورية. جهود المجتمع الدولي يجب أن توجه في المقام الأول إلى تحقيق المصالحة الداخلية في سورية. من المهم تحقيق نهاية سريعة للعنف من أي جهة كانت، وبدء حوار وطني من دون شروط مسبقة ومن دون تدخل أجنبي، واحترام سيادة البلاد. وهذا سيؤدي إلى خلق الظروف المناسبة لتنفيذ الاصلاحات الديمقراطية التي أعلنتها القيادة السورية بشكل فعلي. المهم عدم السماح لنشوب حرب أهلية واسعة النطاق.. وفي هذا السياق عملت وستعمل الدبلوماسية الروسية.
استناذا إلى التجربة المريرة، نحن ضد اتخاذ قرارات مثل التي اتخذها مجلس الأمن والتي من الممكن تأويلها كإذن بالتدخل العسكري في العملية السورية الداخلية..
وفقط بناء على هذه المبادئ لم تسمح روسيا والصين في بداية فبراير/ شباط بتبني قرار يتحمل أكثر من تأويل والذي يمكن أن يشجع لجوء أحد الأطراف المتنازعة إلى العنف..
في هذا الخصوص، ومع اعتبار رد الفعل، الحاد للغاية، على الفيتو الروسي الصيني، أريد أن أحذر زملاءنا الغربيين من إغراء اللجوء الى النماذج المبسطة التي تم استخدامها سابقا: اذا وجدت موافقة من مجلس الأمن على هذه العملية أو تلك فحسنا، واذا لا توجد، نشكل تحالفا للدول ذات المصلحة. ونقصف.
ان منطقا كهذا يعتبر في حد ذاته غير فعال وخطرا للغاية.. ولن يقود اي نتائج حسنة. وفي كل الأحوال، لا يساعد على تسوية الأوضاع داخل الدول التي تعاني من النزاع. والاسوا من ذلك انه يؤدي الى مواصلة عدم توازن نظام الأمن الدولي كله . ويقوض صدقية ودور الأمم المتحدة المحوري. واود التذكير بأن حق الفيتو ليس مجرد نزوة، بل جزء لا يتجزأ من النظام العالمي، موثق في ميثاق الأمم المتحدة، وبالمناسبة، بناء على إصرار الولايات المتحدة. ويتمثل معنى هذا الحق في ان القرار الذي يقف ضده على الأقل عضو واحد دائم في مجلس الأمن الدولي، لا يمكن أن يكون متكاملا وفعالا.. يحدوني أمل كبير في أن تأخذ الولايات المتحدة والدول الأخرى بعين الاعتبار التجربة المريرة وألا يحاولوا اللجوء إلى سيناريوهات استخدام القوة ضد سورية من دون قرار من مجلس الأمن الدولي.
أصلا، لا أستطيع بأي شكل كان، استيعاب مصدر هذا التشدد. لماذا لا يكفي التحلي بالصبر لإيجاد مدخل جماعي ودقيق ومتوازن. خصوصا أنه في حالة المشروع "مشروع القرار السوري" المذكور، هذا المدخل عمليا، اتضحت معالمه. وبقي فقط طلب الشيء ذاته من المعارضة المسلحة، كما من السلطة. وبالتحديد إخراج الوحدات العسكرية والفصائل المسلحة من المدن. ان رفض القيام بذلك يعتبر وقاحة.
إذا أردنا توفير سلامة المواطنين، وهذه أولوية بالنسبة إلى روسيا، فمن المهم عقلنة كل أطراف المواجهة العسكرية. هناك جانب آخر، اتضح أن في الدول التي عبرت خلال "الربيع العربي" كما كان في العراق، تفقد الشركات الروسية مواقعها التي تشكلت لعقود في الاسواق المحلية، تفقد عقودا كبيرة جدا. ويحتل مكانها وكلاء اقتصاد تلك الدول التي ساهمت في تغيير النظم في تلك الدول. يمكن الظن أن أكثر الأحداث تراجيدية إلى حد ما حفزها ليس الاهتمام بحقوق الإنسان بل مصلحة جهة ما في تقسيم الاسواق . مهما كان الأمر لكن بالنسبة إلينا يجب أن لا ننظر إلى كل هذا بهدوء تام. ونحن ننوي العمل بفعالية مع السلطات الجديدة في الدول العربية لنستعيد سريعا مواقعنا الإقتصادية.
بشكل عام ما يحدث في العالم العربي مفيد جدا. وتشير الأحداث هناك إلى أن الرغبة في فرض الديمقراطية من خلال أساليب القوة يمكن وغالبا ما تؤدي إلى نتيجة عكسية تماما. فيتم صعود قوى، بما في ذلك المتطرفون الدينيون، تحاول تغيير اتجاه التنمية في تلك البلدان، والطبيعة العلمانية لحكمها.
نحن في روسيا كانت لدينا دائما علاقات جيدة مع ممثلي الإسلام المعتدل، وأيديولوجيتهم قريبة لتقاليد المسلمين في روسيا الاتحادية. ونحن مستعدون لتطوير هذه الاتصالات في الظروف الحالية. نحن مهتمون بتعزيز العلاقات السياسية والتجارية والاقتصادية مع جميع الدول العربية بما في ذلك مع تلك الدول التي شهدت فترة من الاضطرابات الداخلية. وعلاوة على ذلك، أرى أن الظروف الحقيقية هي التي سمحت لروسيا بالاحتفاظ بشكل كامل بمكانتها الرائدة على الساحة الشرق الأوسطية حيث كان لدينا دائما الكثير من الأصدقاء.
وفيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، فانه لم يتم بعد اختراع "وصفة سحرية" يمكنها أن تساعد في نهاية المطاف على تصحيح الوضع . ولا يجب التوقف في أي حال من الأحوال، آخذا بعين الاعتبار على وجه الخصوص علاقاتنا الوثيقة مع القيادة الإسرائيلية والزعماء الفلسطينيين، وستستمر الدبلوماسية الروسية بنشاط في تشجيع استئناف عملية السلام على أسس ثنائية وفي إطار رباعية الشرق الأوسط وبتنسيق التحركات مع جامعة الدول العربية.
"الربيع العربي" هو أيضا عرض بوضوح أنه يتم تهيئة الرأي العام العالمي في الوقت الحاضر عن طريق استخدام، بشكل نشط للغاية، التكنولوجيات المتقدمة في مجال الإعلام والاتصالات.
يمكن القول إن الانترنت، والشبكات الاجتماعية والهواتف المحمولة وغيرها أصبحت إلى جانب التلفزيون أداة فعالة للسياسة الداخلية والدولية. وهذا هو عامل جديد، يتطلب التفهم وعلى وجه الخصوص، للحد من خطر استخدامه من قبل الارهابيين والمجرمين.
يُستخدم أكثر وأكثر مفهوم "القوة الخفيفة"، اي مجموعة من الأدوات والأساليب لتحقيق الأهداف السياسية الخارجية من دون استخدام الأسلحة، ولكن عن طريق استخدام اذرع تأثير اعلامية وغيرها . مع الاسف غالبا تُستخدم هذه الطرق لتربية وتحريض التطرف والنزعة الانفصالية والقومية والتلاعب بالرأي العام والتدخل المباشر في السياسة الداخلية للدول ذات السيادة.
ويجب التفريق بوضوح بين، حرية التعبير والنشاط السياسي العادي وبين آليات "القوة الخفيفة" غير الشرعية. ويمكن الترحيب بالعمل الحضاري للمؤسسات الانسانية غير الحكومية، بما في ذلك تلك التي تنتقد بنشاط السلطات القائمة ، ولكن نشاط المؤسسات غير الحكومية وغيرها من المؤسسات المدعومة من الخارج والتي تهدف إلى زعزعة الاستقرار في أي من البلدان، غير مقبول.
وأنا أقصد هنا تلك الحالات عندما لا تطور المنظمة غير الحكومية نشاطها من خلال مصالح مجموعات المجتمع المحلية وموارده بل يتم تمويلها ورعايتها من قبل قوى خارجية. يوجد في العالم اليوم العديد من "وكلاء التأثير" والذين يتبعون للدول الكبرى والوحدات والشركات. وعندما يقوم هؤلاء الوكلاء بنشاطهم بشكل واضح هذا يعد أحد أشكال ما يسمى "باللوبي المتحضر". وروسيا لها أيضا مثل هذه المؤسسات مثلا /التعاون الروسي/ وصندوق /العالم الروسي/ وجامعاتنا الرائدة التي تقوم بعملية نحو توسيع آفاق البحث عن المنتسبين الموهوبين في الخارج.
لكن أما روسيا فلا تستخدم المنظمات الوطنية غير الحكومية التابعة لبلدان أخرى.. ولا تقوم بتمويل هذه المنظمات إضافة إلى المنظمات الأجنبية ذات الطابع السياسي من أجل تحقيق مصالحها. والصين والهند والبرازيل لا تقوم بذلك أيضا.
ونحن نعتقد أن التأثير على السياسية الداخلية والرأي العام في بلدان أخرى يجب أن يتم بشكل مفتوح.. الأمر الذي سيضع اللاعبين أمام المسؤولية تجاه نشاطهم .
التحديات والتهديدات الجديدة
إيران.. الآن هي التي تستقطب الاهتمام الشامل. وروسيا بطبيعة الحال تشعر بقلق تجاه التهديد المتزايد بتنفيذ هجوم عسكري على هذا البلد. إذا حدث ذلك فإن العواقب ستكون كارثية حقا ولا يمكن أن يتصور حجمها الحقيقي.. وأنا على ثقة بضرورة إيجاد حل سلمي لهذه القضية. ونحن نقترح... الاعتراف بحق إيران في تطوير برنامجها النووي المدني بما في ذلك الحق في تخصيب اليورانيوم. ولكن في المقابل يجب أن تقوم الوكالة الدولية للطاقة الذرية بمراقبة جميع أنشطة إيران النووية بشكل آمن وشامل. إذا حققنا ذلك... حينذاك يجب رفع جميع العقوبات المفروضة على إيران بما في ذلك أحادية الجانب. وقد شغف الغرب بفرض ما يسمى بالعقاب لدول محددة، وفي حال حدوث شيء ما مناسب ترفع عصا العقوبات وحتى العصا العسكرية. وأذكر بأننا لسنا في القرن التاسع عشر وحتى لسنا في القرن العشرين.
أما فيما يتعلق بالقضية النووية الكورية فالوضع هنا ليس بأقل خطورة.
يتبع...