سبق مول سياتل بمئتي عام

لم يتمالك الشاعر الفرنسي الرومانسي لامارتين نفسه من الدهشة عندما دخل إلى خان أسعد باشا العظم فصاح معجباً: هذا أجمل خانات الشرق. وبعد أن تأمل قبابه الضخمة المحمولة على العضائد قال: إن شعباً فيه مهندسون لديهم الكفاءة لتصميم مثل هذا الخان وعمال قادرون على تنفيذ مثل هذا البناء لجدير بالحياة والفن.
يعد خان أسعد باشا أول (مول تجاري) مغطى في العالم، فتصميمه المعماري وضخامته وتعدد وظائفه التجارية والترفيهية والاجتماعية في وسط مدينة دمشق القديمة هي نفسها تقريباً الفكرة التي أوحت ببناء (المول التجاري أو السيتي سنتر) الذي يظن البعض أنه من بنات أفكار الرأسمالية الأمريكية. فقد سبق خان أسعد باشا مول سياتل الشهير في ولاية واشنطن، بأكثر من مئتي عام، حيث يعد مول سياتل أول مول مغطى في أمريكا والنموذج الذي سارت على خطاه جميع المولات في العالم.
أسعد باشا
بنى هذا الخان الوالي أسعد باشا العظم، المولود عام 1705ميلادي. وقد آلت إليه ولاية دمشق سنة 1743ميلاية مع إمارة الحج، فدخلها في موكب عظيم من الإنكشارية وأكابر المدينة وأمرائها وأعيانها. وبقي في منصبه هذا أربعة عشر عاماً متواصلة بنى فيها قصره المشهور سنة 1749ميلادية. كما بنى الخان الذي ليس له نظير في سعته وجمال زخارف واجهته وطراز بنائه كما يذكر المؤرخ البديري الذي وثق يوميات تلك المرحلة.
استمر العمل في بناء هذا الخان 14 شهراً فقط، إذ بدأ مطلع شهر أيلول (سبتمبر) عام 1752 ميلادية واكتمل نهائياً أواخر تشرين الأول (أكتوبر) من سنة 1753، وهي فترة قياسية حتى في المعايير المعاصرة.
تقدر مساحة خان أسعد باشا، الذي قارن الشاعر لامارتين قبته بقبة كنيسة القديس بطرس في روما بحوالي 2500 متر مربع. ويتكون من واحد وعشرين مخزناً في الطابق السفلي وخمسة وأربعين مخزناً في الطابق العلوي.
يقول البديري إن الباشا صرف عليه في اليوم الواحد ألفاً ومائتي قرش. أي أن كلفته الإجمالية بلغت أكثر من نصف مليون قرش، ولمعرفة قيمتها الحقيقية يذكر المؤرخ عبد القادر العظم أن رطل السمن البلدي كان بقرش واحد.
مركز المدينة
يقع خان أسعد باشا وسط سوق البزورية الشهير في قلب دمشق القديمة، ورغم ما يتحلى به من فخامة وعظمة وغنى معماري إلا أنه يعتبر نموذجياً للأبنية العملية بكل تفاصيله. وتتجلى قيمته العملية بمخططه الذي يتصف بالتناظر التام. فالباحة المتوسطة بقبابها التسع تحتل قلب المنشأة كما أن دهليز المدخل الرئيس يقع في المحور الشرقي – الغربي للبناء بأكمله.
يتجمع حول الباحة في الطابق السفلي صفين من الغرف المخصصة للتجار، الخلفية منها للمكاتب والأمامية للمستودعات. فيما يتألف الطابق العلوي من غرف متجاورة على شكل مربع شبه مغلق وردهات تطل على الباحة المتوسطة بواسطة درازين خشبي.
وبما أن أروقة الخان تعاني من قلة النور رغم وجود نافذتين في مثلثات كل قوس من الأقواس المطلة على الباحة المتوسطة، فإن الضوء الإضافي يأتي نوافذ تخترق بطابع زخرفي القباب التي تغطي زوايا الأروقة نفسها.
ركز المهندس المعمار اهتمامه في تحقيق واجهة بديعة في الجهة التي تطل على سوق البزورية، حيث تتمتع هذه الواجهة بقوس ثلاثي الدرجات يرتكز على أعمدة صغيرة الحجم ورفيعة الجذع ولكنها منحوتة بمختلف الأشكال الزخرفية. وتتوج البوابة مقرنصات فنية ذات طابع مميز.
يتألف الباب من درفتين ضخمتين من الخشب المصفح بالحديد المزخرف، وتتضمن إحدى الدرفتين باباً صغيراً جداً يتيح المجال لمن يريد الدخول إلى الخان خارج أوقات الحركة التجارية.
أما الباحة فتأسر ألباب الناظرين إليها بخطوطها العظيمة، حيث ترتفع دعاماتها الأربع بشدة نحو الأعلى. وفي حين أن الأقواس الجانبية لا تبرز عن تلك الدعامات إلى بروزاً بسيطاً نجد أن الطرف الآخر لكل قوس يرتكز على حاملة جدارية تزهو بمختلف الزخارف.
أخذت مادة البناء على عاتقها المهمة الأساسية المنشودة من الزخرفة فالجدران الظاهرة للعيان جميعها مشيدة من الحجارة الصقيلة على شكل مداميك سوداء وبيضاء يتناوب فيها المرمر الكلسي الأبيض مع حجارة حوران البازلتية السوداء. ويكاد المرء يتخوف من أن يصيبه الملل من تناوب الأبيض والأسود، بيد أن النور اللطيف الذي تسقطه النوافذ المزدوجة في القباب يحد من نشوء ذلك الأثر السلبي.
في سنة 1759 ميلادية وبعد بنائه بست سنوات تعرضت بلاد الشام لأكبر زلزال في تاريخها استمر عدة أيام وليالي. ورغم سقوط الكثير من الأبنية في دمشق، احتفظ خان أسعد باشا بتماسكه، واقتصرت الأضرار التي لحقت به على سقوط ثلاث من قبابه التسعة، التي أعيد ترميمها فوراً.
عده المؤرخ الدمشقي نعمان القساطلي في عام 1879 ميلادي خان أسعد باشا بأنه أعظم خانات الشام. وتحدث عن قسميه السفلي والعلوي اللذين يضمان حوانيت أكابر التجار، وخصوصاً الذين يتاجرون مع العراق العربي وبلاد العجم.
ومنذ ذلك الزمان لاحظ القساطلي اهتمام السواح الأجانب بهذا الخان الغريب البناء والمتقن الصنعة، فكانت الدهشة تعقد ألسنتهم وهم يحملقون ببوابته المحكمة.
وتعد بوابة خان أسعد باشا ذات الزخرفة الرائعة تحفة معمارية لفتت أنظار المصورين الأوروبيين منذ القرن التاسع عشر. وتحفظ لنا المتاحف في مختلف أنحاء العالم اليوم لوحات لخان أسعد باشا وبوابته رسمها فنانون أوروبيون مأخوذون بسحر الشرق.
وصف حي
وينقل لنا الكونت الفرنسي دو باري الذي زار سوريا في ربيع عام1860 ميلادي صورة أدبية رائعة عن جو هذا الخان الذي وجد فيه ملجأ ثميناً لا غنى عنه في طقس دمشق الحار.
ولعل أكثر ما أعجب الكونت دو باري عذوبة مناخ الخان، ونوره، ونافورة المياه الدافقة التي تلطف الجو.
وكأنه يرسم لوحة فنية، وصف الكونت الفرنسي الركائز العريضة التي تنتظر الجمال قربها دون حراك محملة بالبضائع إلى مكة المكرمة. وفيما يفرش تاجر بسطه الفارسية في زاوية خلفية، ينظر إليه رجلان جالسان بهدوء على منصة صغيرة وكأنه يمثل دور البائع والشاري.
في سنة 1917 ميلادية زاره الباحثان الألمانيان كارل فولسنغر وكارل واتسنغر ووصفاه وصفاً دقيقاً وأبديا إعجابهما الشديد بحسن بنائه، ومراعاة المهندسين الذين صمموه لظروف الحرارة والبرودة والنور والضوضاء والجمال. وقد أدرج هذان الباحثان خان أسعد باشا تحت لواء النهضة العثمانية العمرانية التي وصلت إلى ذروتها في أعمال المهندس الشهير سنان باشا ومدرسته، تلك المدرسة التي وضعت نصب عينيها تحقيق الإثارة في الحجوم الفراغية، والبحث عن الحلول لمساقط هندسية في غاية الصرامة والوضوح.
رغم مرور قرنين ونصف القرن على بنائه، مازال خان أسعد باشا يثير اهتمام زائريه من مختلف الثقافات والأجناس، وما إن يدخل أحدهم إلى باحته المتوسطة حتى تعقد الدهشة لسانه، تماماً كما حدث مع لامارتين قبل نحو مائتي عام.
تيسير أحمد- شام نيوز