سلمى الحفار الكزبري.. من الشام الى بيروت .. وبينهما العالم

سلمى الحفار الكزبري
1922 – 2006
من الشام الى بيروت.. وبينهما.. العالم
سهير الذهبي – شام نيوز
«لتكن حياتكم في القرن الحادي والعشرين رافلة بالهناء، وأعمالكم مكللة بالنصر....... افتحوا قلوبكم للحب, هذا الشعاع السماوي الذي هو أهم زاد في الوجود، وأفضل سلاح يحميكم من عاديات الزمان، فالحب فضيلة يزودكم بالإيمان، ويغذيكم بالتفاؤل، ويحثكم على العطاء...»......... وصية الاديبة السورية سلمى الحفار الكزبري وشعارها الذي نادت به في حياتها الغنية والمتنوعة التي امتدت على ستة وثمانين عاما...
قاصة وروائية وشاعرة وباحثة ومحققة وكاتبة سيرة…سلمى الحفار الكزبري.. ولدت في دمشق في الاول من ايار عام 1922 في بيت عريق يهتم بالادب والفكر والسياسة, والدها لطفي الحفار (1888-1968), كان واحدا أقطاب الكتلة الوطنية في سوريا أيام الانتداب الفرنسي وبعد الاستقلال، ونائباً في البرلمان السوري لعدة دورات، ووزيراً للمالية والداخلية ورئيساً للوزراء عام 1939.... وكان لمكتبته الغنية بكتب التراث العربي فضل كبير في تثقيف سلمى وتوسيع معارفها.
"كنت في الرابعة من عمري عام 1926 عندما نفي والدي الذي كان وزيراً في حكومة المفوض السامي الفرنسي, مع ثلاثة وزراء آخرين هم اصدقاؤه في النضال: فارس الخوري, وسعد الله الجابري, وحسني البرازي, الى منطقة الجزيرة شمال سورية مدة شهرين, بعدها نقلوا جميعهم الى منطقة الكورة شمال لبنان وتحديدا قرية أميون فسمح لعائلاتهم بعدها بالالتحاق بهم.. قضيت في شمال لبنان فترة سنتين حتى بلغت السادسة من عمري, وانا احفظ الى اليوم ودا ومحبة لهذه القرية الشمالية"
في معهد راهبات الفرنسيسكان بدمشق تلقت تعليمها الابتدائي والثانوي, أتقنت خلاله الفرنسية والإنكليزية, وكانت احدى مدرساتها الأديبة الرائدة ماري عجمي (1888-1965)
الا ان سلمى الحفار الكزبري لم تكمل دراستها الجامعية بسبب ظروف كانت تصفها بالقاهرة, ولكن هذه الظروف لم تمنعها من متابعة دروس في العلوم السياسية بالمراسلة مع معهد اليسوعيين في بيروت من دون أن تحصل على شهادة تخرج.
بدأت الكزبري تكتب وهي في مطلع صباها باللغتين العربية والفرنسية, وكانت في السادسة عشرة من عمرها عندما نشرت أولى مقالاتها في مجلة «الأحد» الدمشقية التي كان يصدرها إيليا شاغوري, وجريدة «أصداء سوريا» التي كانت تصدر بالفرنسية.. وكتبت مذكرات بعنوان «يوميات هالة» أهدتها إلى روح الزعيم سعد الله الجابري، ويمها أطلع والدها الشاعر بدوي الجبل على هذه المذكرات الذي أعجب بها واقترح عليه نشرها دون أي تعديل.
في عام 1941 تزوجت من محمد كرامي شقيق عبد الحميد كرامي احد زعماء الاستقلال في لبنان, وأنجبت منه طفلاً ولكنها ترملت بعد ولادة الطفل بشهر.
"تزوجت اول مرة من محمد رشيد كرامي شقيق الزعيم عبد الحميد كرامي في لبنان, لكن زوجي توفي بعدما وضعت ابني البكر نزيه وله من العمر 51 يوماً فقط, فصدمت, ولكن الصبر والايمان بالله ورعاية الاهل والحب الذي أحاطني به آل كرامي, كل ذلك دفعني الى أن اقضي خمس سنوات جديدة متنقلة بين دمشق وطرابلس, وخلال تلك الفترة رحت اتابع دراستي في اللغة العربية’ فتتلمذت على يد الاستاذ ابو الخير القواص, وراسلت الجامعة اليسوعية في بيروت, وحصلت من خلال دراستي على اجازة في العلوم السياسية باللغة الفرنسية, وبدأت اكتب مقالات في مجلة (صوت المرأة) في بيروت في تلك الفترة, اما ابني نزيه فقد تابع تحصيله المدرسي في مدرسة ( برمانا ) بمنطقة المتن, ليدرس بعدها الحقوق في القاهرة ويصبح محامياً لامعاً"
أسست عام 1945 جمعية «مبرّة التعليم والمواساة» التي أخذت على عاتقها تربية الأطفال اللقطاء منذ ولادتهم وحتى بلوغهم السابعة من العمر..
شاركت في عدة مؤتمرات اقتصادية اجتماعية عالمية، ودفعها شغفها بالموسيقى الى تعلم العزف على البيانو على يد الأستاذ الروسي الشهير بيلينغ.
في عام 1948 تزوجت من الدكتور نادر الكزبري وأنجبت منه بنتين. وكان أستاذاً في كلية الحقوق بجامعة دمشق وعضواً في مجلس شورى الدولة، ثم سفيراً لسوريا في كل من الأرجنتين وتشيلي وإسبانيا، واستطاعت خلال إقامتها في هذه البلدان تعلّم اللغة الاسبانية، والقيام بنشاطات ثقافية واسعة في الجمعيات والنوادي الثقافية والفنية والأدبية.
"انا مدينة لرجلين في حياتي : والدي الذي علمني وشجعني ودربني, وزوجي الذي عرف بقصتي, وكان مصراً على رفيقة درب من نوعي, وهو محب للفن والادب وله ذوق رفيع في تلك الامور, وقد استفدت من آرائه كثيراً, واتمنى ان يكون لكل السيدات ازواج مثل رفيق عمري نادر"
سفرها الدائم الى أوروبا والأمريكتين وايران والهند مكنها من التواصل مع الطبقات المثقفة في البلدان التي سافرت اليها..... وعند انتقال زوجها إلى مدريد مثلا ليتسلم السفارة السورية هناك، انتسبت إلى جمعية الكتّاب في مدريد وقدمت محاضرات عديدة باللغة الإسبانية عن المرأة العربية وأثرها في التاريخ والأدب, ومكنتها معرفتها باللغة الاسبانية من إلقاء محاضرات في مدريد وبرشلونة عن المرأة العربية, ولها محاضرة شهيرة عن الشاعرة الاندلسية ولادة بنت المستكفي وعاشقها الشاعر والوزير ابن زيدون... وفي مدريد تعرفت على الشاعر نزار قباني.
"كنا أنا ونزار نقرأ لبعضنا قبل مرحلة اسبانيا التي انتقلت اليها مع زوجي بحكم عمله الدبلوماسي. ونزار كان تلميذاً لزوجي نادر ويكبرني بسنة واحدة فقط, وعمل كمستشار في السفارة السورية في اسبانيا حتى عام 1966 ليعتزل بعدها العمل الدبلوماسي, وفي تلك الفترة أصبح جزءاً من العائلة, اضافة الى الاعضاء الآخرين في السلك الدبلوماسي السوري في اسبانيا, فكنا نقضي سهرات عائلية, ولم يكن يومها نزار قد تزوج للمرة الثانية من بلقيس, المرأة التي احب, وكان له أولاد من زوجته الاولى, فتعرفت انا وزوجي الى نزار الدبلوماسي والصديق والانسان والشاعر, وانا اتعجب احياناً عندما أقرأ شعر ومغامرات الحب لنزار, فهذا أمر لا يصدق, لأن نزار رجل خجول جداً في علاقاته الشخصية........ مرحلة نزار قباني في اسبانيا كانت مهمة جداً, فتعرفنا نادر ونزار وانا على الوسط الثقافي والمستشرقين في اسبانيا, وزرنا بلاد الاندلس وحضرت ولادة قصائد نزار عن غرناطة وعن والدته ايضاً, وشاركنا في مهرجان ابن حزم عام ثلاثة وستين".
بعد عودتها وعائلتها الى دمشق انتسبت الى المركز الثقافي الاسباني حيث درست جدياً اللغة والأدب والتاريخ... وفي دمشق وبيروت كونت سلمى الحفار صداقات وعلاقات واسعة مع اسماء كبرى في عالم الفكر والادب والفن والصحافة.
" في مطلع القرن العشرين عاصرت صالون ( ماري عجمي) استاذتي الكبيرة, اضافة الى صالون الاديبة ( مي زيادة).. وفي بيروت عاصرت الندوات الادبية في مدينة تجمع كل الاذواق والاهواء, كانوا اغلبهم في الجامعة الامريكية في بيروت, ومنهم الدكتور فؤاد صروف وهو من كبار الاساتذة, وقد شجعني على دراساتي وانكبابي على اصدار كتاب عن ( مي زيادة) بتأثر مباشر من عمه يعقوب صروف صاحب جريدة (المقتطف ), اضافة الى صداقتي مع الدكتور قسطنطين زريق رئيس الجامعة سابقاً, وشيخ المؤرخين الدكتور نقولا زيادة".
الاديبة مي زيادة كانت من اكثر الشخصيات تاثيرا بسلمى الحفار, فدرست حياتها وجمعت سيرتها على مدى سبعة عشر عاما, وكانت مهتمة جدا بإظهار دور "زيادة" في النهضة الأدبية الحديثة، وإبطال بعض الشائعات المُسيئة التي راجت عنها كجنونها في آخر مراحل حياتها, وكتبت عنها ثلاث مؤلفات: "ميّ زيادة، مأساة النبوغ" وهي ترجمة في جزأين - "الشعلة الزرقاء" عام 1979 وهو كتاب جمعت فيه كل الرسائل المتبادلة بين "ميّ" وجبران خليل جبران, وقامت بتحقيقها بالمشاركة مع الدكتور "سهيل بشروئي" - "مي زيادة وأعلام عصرها"، وقد جمعت فيه رسائل متبادلة بين مي ومعاصريها من أعلام الادب.
"كان فضل مي زيادة على مسيرتي الأدبية كبيرا , وجنيت فوائد فكرية وشخصية وأدبية بفضل مغامرتي المثيرة مع مي وجبران وعصرهما، وعطائهما وحياتهما، وحبهما الفريد من نوعه في تاريخ أعلام الأدب في العصر الحديث شرقا وغربا".
تنوعت كتابات سلمى الحفار الكزبري بين الشعر والقصة القصيرة والرواية والمقالة الصحفية والمذكرات والسير الذاتية.... ابرز هذه المؤلفات يوميات هالة في دمشق عام 1950 - مجموعة قصص بعنوان "حرمان" في القاهرة عام 1952 – مجموعة قصص بعنوان "زوايا" في القاهرة عام 1952 – "أشعار" بالفرنسية في الأرجنتين عام 1958 – دراسة بعنوان "نساء متفوقات" في بيروت عام 1961 – رواية "عينان من اشبيلية" في دمشق عام 1965 – مجموعة قصص بعنوان "الغربية" عام 1966 – "شعر" بالفرنسية في باريس عام 1966 – سيرة ذاتية بعنوان "عنبر ورماد" في بيروت عام 1970 – رواية تناولت فيها القضية الفلسطينية بعنوان "البرتقال المر" في بيروت عام 1974 – رواية بعنوان "الحب بعد الخمسين" , مذكرات اهدتها الى والدها لطفي الحفار وضمت اثنتين وثلاثين مقالة تحدثت فيها عن الحب والحرب، والحب والشيخوخة وحب الطيور وحب الحرية، وحب الأرض، وحب الله.. عام 1989 – "لطفي الحفار- مذكراته وحياته وعصره" , سيرة حياة والدها في مختلف مراحل حياته ونضاله، ووثائق متصلة بأعماله، والمهام الرسمية التي قام بها، والمناصب الحكومية التي شغلها، والرسائل التي تبادلها مع معاصريه على مدى ستين عاما.
نالت الأديبة الراحلة جائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي سنة 1995, وشاركت في عدة مؤتمرات نسائية منها المؤتمر الاقتصادي الاجتماعي في هيئة حقوق المرأة الذي عقد عام 1949 في مبنى اليونسكو في بيروت... كما فازت بجائزة البحر الأبيض المتوسط الأدبية من جامعة باليرمو في صقلية عام 1980، ووسام «شريط السيدة» من اسبانيا عام 1965.
وبعدما عايشت الحرب الاهلية في لبنان في السبعينات, عادت سلمى الحفار الكزبري لتشهد حربا اخرى على هذا البلد الذي احبته في صيف 2006, ولكن قلبها هذه المرة لم يحتمل القصف والدمار فتوقف عن الخفقان في الحادي عشر من آب عام 2006.. مودعة سنوات فاقت الثمانين عاشتها بمنتهى الشباب والحب وبرفقة الادب والسفر والفن, ومشروع اجتماعي وادبي لم يتوقف حتى اليوم الاخير.. ووريت الثرى في مقبرة الشهداء.
|