سواطير النقد الفني

لا أريد في هذه المقالة أن أضع تعريفاً لوظيفة النقد الفني التلفزيوني، فلست منظراً لهذا الجنس الابداعي، ولا لغيره، ولكنني أريد أن أقف عند ظاهرة تميز الصفحات الثقافية والفنية للكثير من المجلات والجرائد العربية وبالتالي الكثير من مواقع الانترنت، والمقصود هنا هو تحويل النقد إلى أداة للسحل والجلد والانتقام وتصفية الحسابات القديمة، وربما إصدار أحكام بالاعدام.
ما إن يحظى مسلسل سوري ببعض الشعبية، حتى يتحول بشكل "أوتوماتيكي" إلى هدف دسم لنقد المنتقدين، وصيد سمين لسواطيرهم، فالمؤامرة كبيرة ، وهذا المسلسل الذي حظي بأكبر نسبة مشاهدة، هو جزء من مؤامرة "خبيثة" لتخريب الذائقة الفنية، ولتسطيح القضايا الكبرى، وللضحك على الجماهير المخدَّرة.
ثم تبدأ مرحلة أخرى من النقد تستهدف المخرج أو الكاتب، فتضيء على الجوانب المعتمة في شخصيته، وجذور التآمر في عائلته، وأن الأمر يتعلق بالجينات، وليس بسلوك فردي نابع من ظروف خاصة.
أما المرحلة الثالثة فتتناول موقع هذا المسلسل في خريطة التآمر الكوني الذي يستهدف الجماهير العريضة، والدور الذي لعبه في هذه الخريطة، والنتائج الكارثية التي وصلت إليها البلاد بسبب هذا المسلسل أو ذاك.
والغريب أن هذا التأثير الحتمي والمصيري للمسلسلات على الجماهير، لا يفعل فعله إلا إذا كان سلبياً، أما الايجابيات التي تحاول بعض المسلسلات زرعها في المشاهدين فلا تأثير لها البتة، فمسلسل ما عن الايدز لم يقلل نسبة المصابين بهذا المرض الخطير، ومسلسل آخر عن ظاهرة الدجالين المحترفين لم يضع حداً لهذه الظاهرة التي باتت تشكل تهديداً لبعض الأسر والمجتمعات، كما طالعنا في العام الأخير من تحقيقات وأخبار في الكثير من الصحف والمواقع الالكترونية.
الموضوع بكل بساطة لا يستحق كل هذه الجدية في الطرح، فمسلسل كوميدي خفيف، مثل أبو جانتي أو اجتماعي مثل باب الحارة، لا يطمح لأن يكون بهذا التأثير الذي رآه فيه بعض النقاد، وبالتالي اعتبروه وبالاً على المشاهدين، بل هو محاولة من الكاتب أو المخرج أو النجم الذي لعب دور البطولة لادخال بعض السرور إلى قلوب المشاهدين، فإذا نجح فله أجران وإذا لم ينجح فله شرف المحاولة، وموضوع وضع حد للمؤامرة يتعلق بضغطة صغيرة على اليريموت كونترول للانتقال إلى محطة أخرى، لا أكثر ولا أقل.
لا أريد أن أتحدث عن الدوافع التي تقف وراء هذا الناقد الناقم أو ذاك، ولكنها في الغالب دوافع شخصية، إذ ما معنى أن ينتقد الناقد هذا المسلسل انتقاداً يصل إلى درجة الحكم على منفذيه بالاعدام، و في الوقت نفسه يشيد بمسلسل شبيه به لا يختلف من حيث الجوهر أو المضمون إلا تبعاً لعلاقة هذا الناقد مع مخرج أو بطل المسلسل.
ثمة نوعية أخرى من النقاد يتجاوزون العلاقات الشخصية الآنية، ويكتمون في قلوبهم ربما لعدة سنوات، ينتظرون فرصة للانقضاض على هذا المخرج أو الممثل أو الكاتب، عبر أي ثغرة يمكن أن يلجوا منها للاجهاز على العمل، فالأمر هنا يتعلق بتصفية حسابات قديمة، ورغبة بالايذاء عن سابق الاصرار والترصد، وطبعاً ستجد أن النقاط التي اتخذت كأرضية للنقد هي نفسها النقاط التي يمكن أن تتخذ أرضية لازجاء المديح المجاني، إذن فالأمر برمته موقف شخصي يذكر بأغنية زياد الرحباني "قلتيلي حبيتك" فأسباب حبها له هي نفسها أسباب كرهها له.
والغريب واللافت في كل هذا أن الناقد الناقم، هو أول المحتقرين للجماهير التي يدافع عنها، فلايهم إن كان هذا المسلسل قد حظي بنسبة مشاهدة عالية، ولا يهم إن أدخل بعض السرور إلى قلوب المشاهدين، ولا يهم إن تحول النجم إلى أيقونة لدى الأطفال، ولايهم إن اكتسح الفصائيات العربية، وأصبح حديث الشارع العربي من المحيط إلى الخليج، لا يهم كل ذلك، لأن هذه الجماهير مضللة ولا تعرف ما تفعل، وليست مسؤولة عن تصرفاتها، والوحيد الذي يعرف أكثر من غيره، ويدرك مصلحة الجماهير أكثر منها، ويستطيع أن يتخذ الموقف التاريخي المناسب هو نفسه الناقد الناقم.
أعتقد أن هذه الطريقة المغلوطة في التفكير والكتابة، موروثة من أيام المغفور لها نظرية الواقعية الاشتراكية في النقد، فالناقد هو محرك الجماهير، وهو الذي يتصدى بكل شراسة لمحاولات قوى الشر اختراق جسد الأمة عبر الأعمال الدرامية المشبوهة، لزرع قيم السلبية في نفوس الأجيال.
تيسير أحمد- شام نيوز