سورية.. عام صعب وآخر مقبل في علم الغيب

أخفق النظام والمعارضون في حسم الصراع الدائر في سورية بعد عام من انطلاق الحراك الذي شهد تغيراً درامياً بلجوء قسم منه إلى السلاح، وتنزلق البلاد إلى حرب أهلية تقوض أساس الدولة الداخلية، وتتحول إلى ساحة صراع بين أطراف إقليمية ودولية يكون الوطن والمواطن السوري ضحيتها الأولى، ولعل الحوار هو أول مفاتيح الحل لتجنب الأسوأ.
وتتضارب الروايات عن أسباب الحراك، ومحركيه، ومآلاته، لكنها لا تستطيع تغيير واقع سورية الحالي الذي يصعب على أي عارف بها أن يصدق أنها هي ذاتها التي كانت قبل 15 آذار 2011.
فقبل عام كان السواد من المراقبين السياسيين والمحللين يستبعدون امتداد "الربيع العربي" إلى سورية رغم اختلاف منطلقات وأسباب كل منهم للتوصل إلى هذا التوقع.
والآن يجانب الحقيقة من يدعي بمعرفته كيف ستتطور الأمور في الفترة المقبلة، وطبعاً هذا لا يعني أننا لن نسمع محللين وأشباه محللين، وخبراء وإعلاميين مغمورين بعضهم لم نقرا له مقالة واحدة، أو آخرين معروفين، يطرحون آراء تؤكد قرب حسم أي واحد من الطرفين الوضع لمصلحته، وإدعاء أن معظم الشعب يقف إلى جانب هذا الطرف أو ذاك، وان البلاد سوف تخرج أقوى إن استطاعت السلطة أن تقضي على الحراك أو ان استطاعت المعارضة إطاحة النظام.
نظام متماسك...
بدا واضحاً طوال العام الماضي تماسك النظام، ومحافظته على دعم شرائح وأطياف اجتماعية واقتصادية واسعة، ويستطيع في أي لحظة تحريك الشارع المؤيد له، واستفاد من تجارب الأنظمة السابقة بمنع التأسيس لـ "بنغازي جديدة" في الشمال أو الجنوب، وفي الشهر الأخير سخر آلته العسكرية لإنهاء ظاهرة استيلاء الجيش الحر على مناطق في حمص، وإدلب وريفيهما، كما أن حركة الانشقاق في صفوف العسكريين ورجال الأمن لم تتوسع أفقياً وعامودياً حتى الآن بما يهدد قدرة الجيش على مواصلة عملياته العسكرية.
معارضات مشتتة...
وفي مقابل تماسك النظام نجد معارضة عاجزة عن توحيد صفوفها، وتختلف التصنيفات بين معارضة داخلية وخارجية، ووطنية وتابعة للخارج، وأخرى تدعو إلى سلمية الثورة مقابل فريق يدعو إلى التسليح، وبعضها مع الحوار وآخر مع مفاوضات لنقل السلطة، وثالث يرفض المبدأين مطلقاً، كما أن هناك معارضة تميز بين النظام والرئيس بشار الأسد، فيما تحمله أخرى المسؤولية وتعتبره المسؤول الأول عن كل تصرفات النظام.
وبعد نحو ستة أشهر من تأسيسه يبدو "المجلس الوطني" عاجزاً عن إقناع العالم بأنه يمثل المعارضة السورية كاملة، ناهيك عن تمثيل الشعب السوري، ويتضح عجزه في اشتقاق برامج موحدة للحراك، واختلاف أعضائه حول توسيع صفوفه بضم الجهات المعارضة الأخرى، ومحاولات إقصاء الآخر وتهميشه، وأغلب الظن أن المجلس مقبل على انشقاقات كبيرة في المستقبل القريب، علماً أنه عطل في شكل أو آخر تطور المعارضة الداخلية بالشكل السليم والمناسب على قاعدة "أهل مكة أدرى بشعابها"، وتوقف التطور اللافت للتنسيقيات في غضون أشهر من الحراك على رغم اختلاف مشارب المشاركين فيها، وافتقاد معظمهم لتجربة العمل السياسي المنظم بسبب احتكار حزب البعث والجبهة الوطنية منذ بداية الثمانينيات للخريطة السياسية.
أزمة ثقة يؤججها الإعلام...
تبرز مقاطع الفيديو، والشهادات التي تنقلها وسائل الإعلام المختلفة حجم المأساة , شوارع فارغة من سكانها في عدد من المدن ومجازر يروح ضحيتها أبرياء عزل، وأطفال يغيبون عن مدارسهم واضطروا أن يغادروا عالم الطفولة باكراً للحديث عن مجازر، أو انتقام، ويتم استغلالهم للترويج لهذه الرواية أو تلك.
وتتعمق أزمة الثقة بين المحتجين والسلطة، ويلعب الإعلام دوراً كبيراً في توسيع الهوة بين الجانبين، فالإعلام الوطني أثبت فشلاً ذريعاً في استراتيجيته وتكتيكه للتعامل مع الأحداث، ويتخبط في تغطيته ويتعامل كما لو أن العالم مازال مغلقاً يعيش في السبعينيات أو الثمانينيات من القرن الماضي، فيما يتلقف الإعلام الخارجي أي خبر دون التأكد من صحته في أحيان كثيرة، ليؤجج مشاعر الداخل والخارج على حد سواء، ويتسبب الطرفان في ضياع جزء كبير من الحقيقية في التغطية من جانب واحد.
من لاعب إلى ساحة للصراع...
والواضح من الحراك الدولي أن سورية التي لعبت دوراً سياسياً أكبر بكثير من حجمها الجغرافي تتحول، للأسف، إلى ساحة لصراع قوى إقليمية وعالمية وتصفية حساباتها، مع عدم القدرة على المحافظة على التوازنات السابقة، فقبل الأزمة استطاعت دمشق المحافظة على علاقات متوازنة مع دول مجلس التعاون الخليجي دون أن تتأثر علاقاتها مع إيران، وتعزيز محور الممانعة مع حزب الله وحماس والتنظيمات الفلسطينية، ويبدو واضحاً أن دول الخليج تخوض حرباً بالوكالة على أرض سورية، كما أن العلاقة المتينة التي بنتها مع تركيا لتمثل نموذجا لعلاقات الجيران في المنطقة انهارت منذ منتصف الصيف الماضي، ورغم تحول موقف رئيس الوزراء نوري المالكي نحو دعم النظام إلا أن دمشق باتت تفقد تقريبا عناصر القوة في المعادلة العراقية التي منحتها حرية التمايز أو حتى التضاد مع موقف حليفها الإيراني، ومع انشغال سورية بمشكلاتها الداخلية، فان الانقسام الحاد في المواقف بين مؤيديها ومعارضيها أخذ الدور السوري يضعف في لبنان رغم أنها استطاعت أن تبقى لسنوات لاعباً أسياسياً حتى بعد انسحاب قواتها في العام 2005.
وأنهت المواقف الأوروبية من النظام "شهر العسل" الطويل الذي بدأ بعد أن استطاعت دمشق تجاوز معظم الآثار التي خلفها اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وحل الرئيس الأسد ضيفاً أكثر من مرة على العواصم الأوروبية، ونسج علاقات طيبة مع معظم بلدان الاتحاد.
ولابد من الإشارة إلى الموقف الروسي الذي مازال محط نقاش وجدل بين مؤيد ومعارض، وبين متوقع ثباته إلى النهاية أو تغيره بفعل الأحداث أو الضغوط، ولعل الأهم هو الجدل حول منطلقاته المبدئية أو البرغماتية، وكيفية تأثيره المستقبلي في تطور الصراع.
إلى الحوار درّ...
أخفق النظام والمعارضون في حسم الصراع طوال عام، وأغلب المكاسب حققها كل طرف على حساب أخطاء الآخر، ولعل الخاسر الأول هو المواطن الذي فقد الأمن والأمان ولم ينعم بالحرية والاستقرار.
وبعيداً عن تبني نظرية أي طرف حول طبيعة وأسباب الحراك، فإن التغير الدرامي في مسار العام الماضي كان دون أدنى شك التسليح والانتقال من الشكل الجماهيري الخالص للحراك إلى مزاوجة للعمل العسكري مع الحراك الشعبي، ويدعو البعض إلى التسليح الكامل، وهو أمر إن حصل سوف يلعب أسوأ الأثر في تقويض بنيان الدولة السورية، وليس إسقاط النظام فحسب، ويفتح على انزلاق البلاد إلى حرب أهلية طويلة تكوي بنارها المنتصر والخاسر على حد سواء لأنها تزرع الأحقاد في بلد متنوع الطوائف والإثنيات، كما لابد أن تفتح على صراع كبير لا يحمد عقباه في الإقليم على أساس مذهبي وإثني نحتاج إلى عشرات السنوات لإخماده.
ولهذا فإن مراهنة أي طرف على أن الوقت يلعب لصالحه مراهنة خاطئة، ولعل الأسلم هو اختصار المعاناة والألم والانطلاق إلى حوار واضح ومحدد الأسس يفرض حلاً سياسياً، ويسمح بحرية التعبير بالقول أو التظاهر، وتحريم الدم السوري.
حوار ينقل سورية إلى "ربيع حقيقي" يتناسب مع امكاناتها ودورها وقدرة شعبها على العطاء والإبداع، ويعيد رسم الابتسامة أخرى على شفاه الأطفال، ويلئم جراح الثكلى وينهي الأحقاد التي تهدد مستقبل البلاد. ويبقى الأمل والطموح مشروعاً رغم سوداوية المشهد لكنه بحاجة إلى جهود حثيثة وصادقة من الطرفين تبقى كلفتها أقل بكثير من سفك المزيد من الدماء.