شهر على غيابه.. صانع الزمن وزارع الأمة ضمائر

شهر على غيابه.. صانع الزمن وزارع الأمة ضمائر

هبة شعبان - شام إف إم

أعطوا الجيل قدوةً، وسيكون أعظم مما تعتقدون..

تحتاج الفئات العمرية التي ينشب في نفوسها وتصرفاتها النمو والمراهقة مثلاً أعلى أو قدوةً تكون في مرمى النظر الأعلى لأصحابها، بحيث ينظرون إليها كمن ينظر إلى السماء، وهم في طريقهم يحاولون الاقتراب من سماتها ومناقبها ومآثرها، قد لا يصبحون تلك الشخصية بذاتها، وربما ليس المطلوب أن يشبهوها أو يتقمصوها، فتلك ممارسات واعية ظاهرة يمكن ملاحظتها؛ لكن الأعمق والأشد تأثيراً هو الفعل اللاواعي الذي يغرس كبذرة في باطن تلك النفس المراهقة، التي تتكون وتبنى وتتغذى على ما حولها من معتقدات وعقائد وأمثلة ومُثل، وتتشرب كالأرض ما يسري في التراب والهواء والضوء، وكل ذلك من دون أن تدري، أو أن تعي ما يحدث لها.. وهنا يحدث البناء، بناء اللاوعي والعقيدة وخيوط الانتماء لشيء أو أكثر، وعلى ذلك تبنى لاحقاً مسلّمات لدى المرء وممنوعات وخطوط حمر وملامح شخصية وقواعد حياة بأكملها.

بعيداً عن علم النفس والمتخصصين فيه، لكن على الأغلب هذا ما حدث مع ذلك الجيل، الذي شهد مع بداية تشكل وعيه تحرير جنوب لبنان عام 2000، وهو الذي كان يشاهد في طفولته غير البعيدة نشرات الأخبار تنزف دماً في فلسطين ولبنان، وعرف أن هناك شريراً قاتلاً في هذا العالم اسمه "إسرائيل"، هو كيان وعدو، بل هو العدو الأوحد، وهو الشيطان، إذا لا يمكن للشيطان أن يتجسد في صورة سوى ذلك. ثم.. يرى بطلاً مخلّصاً، كان لا يزال يعتقد أنه حبيس الروايات والانتصارات السابقة فقط، هذا البطل كسّر أقفال السجون مطلقاً الحياة مجدداً أمام من أُسروا، وصنع حرية لبنان وجنوبه في 25 أيار، اسمه "مقاومة"، رايته "حزب الله"، وجسده مقاتلون وهبوا دماءهم للأرض والأهل، طلبوا الموت وأعاروا جماجمهم لله، أما وجهه فكان "حسن نصر الله".

وانتصر البطل، وعاش الجيل انتصاراً حقيقياً على ذلك الكيان الذي تفتك آلته بالأرض وبشرها وتاريخها وكل ما فيها، وفهم العقل الذي يتشكل أن هناك أشياء ثمنها الحياة أو الموت، كالحق والأرض والحرية، كما هناك ركائز لا يمكن أن تقوم حياة بدونها وهي العقيدة، والإيمان، وأن مستقبل البلاد مرهون بحاضرها، ومعلّق بأولادها.

وما كانت تلك إلا البداية، ثم أتى تموز، وأسرت المقاومة جنديين إسرائيليين، فغضب الكيان المهزوم ثم وقعت حرب ثلاثة وثلاثين يوماً لم ترضَ المقاومة أن تُنهى بغير الانتصار، وفاء لأرواح من استشهدوا ظلماً وعتياً بمجازر العدوان، لتضافَ حكايات أخرى إلى ذاكرة الجيل كـ "الوعد الصادق"، و"انظروا إليها تحترق في عرض البحر".. لم تكن حكايات بقدر ما هي قيم، تغذت عليها النفوس المتعطشة للنصر، واستقرت كذلك في لاوعي الجيل قاعدة تذكي فيه النخوة والشرف والإيمان.

ووعدٌ على وعد، ثم صدق ووفاء، ثم أقوال مغمسة بأفعالها، مثل: "نحن قوم لا نترك أسرانا في السجون"، ".. وكرامتنا من الله الشهادة"، "إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت"، "ما بعد بعد حيفا"، فتترسخ البنية التي تشيّد في صلب من عاش ورأى وسمع كل ما سبق، وكان شاهداً يروي لا يُروى له.

أعوام بعد ذلك رُدع العدو، المقاومة رسمت قواعد ردعه، ولم يعد يجرؤ، وكلّما قطف الموت لها شهيداً أثبتت أنها نهج لا أشخاص، كان لا ينفك يرسي قيمَها تلك وجهُها الجميل، ومهندسها البارع، ومقاتلها الذي أحبها الناس فيه ومن خلاله، وانتظروه يخبرهم بما كان، وما سيكون، وتجمّعوا لسماع كلامه مضموناً ونبرةً، وما قالوا له "لبيك" إلا يقيناً وتسليماً وحباً وثقة، "السيد حسن" كما يسميه أبناء الأجيال التي عاصرته، صنع ما هو أعمق من انتصار ميداني، أو تحرير أرض، أو مشاركة عسكرية، أو إسناد مظلومين؛ فقد كان بنّاءً لنفوس وضمائر وأخلاق وذاكرة، كان سيّداً ومعلّماً وقائداً، وبكلمة واحدة كان "القدوة".

وحتى اليوم لا طريقة علمية أو وجدانية توضح كيف يُبكى رحيل القدوة.