شو بيبقى من الرواية؟...

 



 
 

هيام حموي. البعث


صحيح كل ما يُقال عن انحسار هواية القراءة لدى إنسان أواخر القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، وفي النفس حسرة حقيقية صادقة على كل من لم يتذوّق متعة تصفّح كتاب يحتوي بين جلدتي غلافه تسلسل رواية مشوّقة، عاطفية، بوليسية أو من روايات الخيال العلمي، وهذا الصنف الأخير أقل انتشاراً في أرفف مكتباتنا العربية، تأليفاً وحتى ترجمة، فهذا الجنس الأدبي، إن صح التعبير، غالباً ما يجنح بالخيال نحو آفاق قد لا توافق عليها بعض العقول المشرفة على أجهزة رقابة المصنفات الأدبية، غير أن مجتمعات أخرى، وبالرغم من انشغالها بمزيد من الإنتاجية في الحياة اليومية، تحاول استثمار الوقت الطويل نسبياً، والضائع في المواصلات العامة بالقراءة، ففي قاطرات المترو الباريسي، نادراً ما يُشاهد راكبٌ لا يحمل بين يديه صحيفة يومية أو غير منهمك بقراءة كتاب ما، لذا فإن المؤلفين ما زالوا يسعون للاستئثار بجزء من اهتمام الجمهور وبنصيب من مصروف جيبه، خصوصاً بعد ابتداع فكرة "كتاب الجيب" التي تدفع بدور النشر إلى إصدار نسخ قليلة التكاليف من الكتب الأكثر مبيعاً في طبعتها الأولى، فيزداد انتشار الكتاب وذيوع اسم المؤلف، وشغف القرّاء بهذه الهواية الممتعة والمفيدة، مع أنها لا تخلو من مخاطر.

 


مخاطر تطال من؟

 


  

قد يبدو مدهشاً أن تطالنا المخاطر، هنا في بلادنا، من حيث لا ندري، وبطريقة تتسلل فيها الأفكار السلبية وتتغلغل في عقول أفراد مجتمعات لا تكنّ لنا العداء مبدئياً، دون أن يكون لنا ذنب سوى أننا ندافع عن وطن سليب اسمه فلسطين، عن طريق شرح القضية بوضوح لأطفالنا واليافعين في المدارس.

إنه مثال من أمثلة عديدة، غير أنه من أكثرها بلاغة... هو كاتب فرنسي، اشتهر بروايات الخيال العلمي، بدأ الكتابة في 1990، اعتاد أن يمزج في أسلوبه بين عدة أنواع أدبية مختلفة، كالأسلوب الملحمي والأسلوب الفلسفي في معظم رواياته. برنار فيربير، وهذا اسمه، قام بدمج النثر القصصي وشطحات الخيال مع المواد العلمية الأكثر دقة، وقد لاقت أعماله رواجاً هائلاً فقد باع ملايين النسخ من بعض رواياته التي ترجمت إلى مختلف اللغات العالمية، ومن أشهر رواياته "النمل"، التي صدرت عام 1991 وبيع منها أكثر من مليوني نسخة وتم تحويلها إلى لعبة من ألعاب الفيديو، وإلى فيلم كرتون، ويتحدث فيها عن مجتمع النمل بشكل فيه الكثير من اللمسات الإنسانية وبتشويق بديع، وقد دفعه نجاح الرواية إلى كتابة جزئين آخرين وصارت الأعمال الثلاثة تُعرف باسم "ثلاثية النمل"...

 


حتى الآن ما من مشكلة، لكن بعد أن استتب النجاح للكاتب الموهوب، صدرت له في العام 2001 رواية بعنوان "السر الأخير"، ولاقت من النجاح ما كاد يضاهي نجاح سابقاتها من رواياته، إذ تسرد، بتشويق وإثارة بالغين، وقائع التحقيق في محاولة اغتيال استهدفت شخصاً ثرياً في مدينة كان على الشاطئ اللازوردي جنوب فرنسا، فيدخل في غيبوبة وعندما يصحو يكتشف أنه أصيب بشلل كامل في كل أعضاء جسمه ما عدا دماغه وعينه، فيتمكن من التواصل مع طبيبه المعالج والمختص بجراحة الأعصاب، عن طريق رفّة جفن عينه المتبقية خارج نطاق الشلل.

 الطبيب المختص بالجراحة العصبية يُخضعه لتجارب علمية غير مضمونة على أمل أن تساعده في استرداد ملكاته الجسدية، وفي منتصف الكتاب تقريباً، يتحدث الطبيب لمريضه شارحاً آليات عمل الدماغ، وكيف يمكن التأثير على وظائفه، وفجأة، تأتي جملة غريبة على لسان رجل العلم، في خضمّ التشويق الروائي، فيقول ما معناه: "يمكن للدماغ أن يتعرض لما يُعرف بعملية غسيل، مثلما تفعل السلطات السورية مع تلامذة المدارس، حيث تعمل على قولبة أدمغتهم الغضّة وتزرع فيها شعور الحقد ضد إسرائيل، ويُفترض أن تتدخل الأمم المتحدة في مناهجهم الدراسية من أجل منع الأمر.."، ثم يتابع حديثه وكأن شيئاً لم يكن..

 


ترى ما شعور أي شخص سوري الانتماء عند قراءة هذه الجملة العابرة، ببراءة ماكرة، والتي هبطت على الرواية التشويقية بامتياز،من حيث لا يدري؟


وبعد أن ينتهي من الحكاية العبقرية الممتعة... لا بد أن يتساءل "ترى، في لا وعي القارئ الآخر، شو بيبقى من الرواية؟..."