شو هالإيام اللي وصلنا لا...
هيام حموي. البعث
مع اقتراب موسم أعياد الميلاد ورأس السنة، اعتادت المجتمعات الغربية أن تُصاب بحمّى التسوّق، وهي "حالة مرضية" مشروعة عندما تتعلق المشتريات باحتياجات فعلية للكبار والصغار، خصوصاً حين يحلم طفل بثياب جديدة أو حذاء يتباهى به أمام أترابه، أو يُفاجأ الكبير بهدية كانت تبدو أبعد من مناله لكونها أعلى من قدراته الشرائية المعتادة.. لكن قناة "آرتي" الفرانكو ألمانية التلفزيونية والتي تُعتبر ملتزمة ثقافياً وإنسانياً، وبعيدة كل البعد عن الإثارة الإعلامية المستفزّة الرائجة حالياً، بثت برنامجاً وثائقياً أعِدّ خصيصاً لمناسبة الأعياد، سلّطت فيه الضوء على عدوى "حمى الاستهلاك" التي تؤجّجها الحملات التسويقية المدروسة بدقّة من الناحية السيكولوجية بحيث تضيف صفة الضرورة المُلزمة على كماليات تكنولوجية "آخر صيحة" ربما كان يمكن تأجيلها أو حتى الاستغناء عنها، بحيث لا يكون اقتناؤها على حساب الضرورات الأساسية..
وهكذا، راح معدّو البرنامج ينتقدون اللهاث خلف شراء الطراز الأحدث من السيارة التي لا تزال في أوج لياقتها، أو السعي الدؤوب لاقتناء جهاز الموبايل الأحدث طرازاً والذي يمتاز عن سابقه بقدرته على التقاط صور أدق وأوضح، وكأن صاحبه سيمضي جلّ وقته في تصوير "اللي يسوى واللي ما يسواش".. هنالك أيضاً الرغبة الشرائية الجديدة التي تستدعي حاجة اقتناء الألواح الالكترونية "الآيباد" إلى جانب "اللابتوب" المنزلي والأصغر المحمول، وهكذا إلى آخر اللائحة.
من الأسئلة المشروعة التي طرحها البرنامج باستغراب مصطنع مثلاً سؤال حول سبب تلف بطاريات أجهزة الهواتف المحمولة من ماركة عالمية شهيرة بعد سنة من الاستعمال، وارتفاع ثمن البطاريات البديلة بحيث لا يجد الزبون حيال ذلك سوى خيار شراء الموديل الأحدث، ولماذا عند أدنى عطل في جهاز الكمبيوتر يصبح إصلاحه أعلى ثمناً من الجهاز الجديد؟ ثم تأتي الأرقام المذهلة عن كمية النفايات التي تتكدس بالأطنان بعد رمي كل هذه الالكترونيات التي كان يمكن استخدامها لأزمان طويلة بعد.
وعرض الوثائقي بعض المشاهد الطريفة التي تظهر من خلالها صبيتان جميلتان ترتديان المايوه "البكيني" تناضلان ضد استغلال الشركات الصناعية الكبرى للأيدي العاملة بملاليم، في العالم الثالث، من أجل أن تحقق مؤسسات العالم الأول أرباحاً خيالية بالدولارات، ويتمثل نضال الفاتنتين باللجوء إلى تحطيم أجهزة الكترونية فاخرة من الماركة الشهيرة التي اعتمدت التفاحة رمزاً لها، قبل أن ينتقل بالحديث عن ظاهرة جديدة، ألا وهي تأسيس مجموعة ناشطين على الانترنت شعارها "لا ترموا بالأجهزة، بل اعملوا على إصلاحها"، وهدفها بالطبع الحد من الاستهلاك المجنون المخرّب للبيئة على مختلف المستويات. المجموعة تأسست في العام 2003، ويتمنى أحد نشطائها أن يأتي يوم ويتمكن الجميع من إصلاح أجهزتهم، ودعماً للمشروع، فقد تم تصميم موقع الكتروني يشرح، بالصور وبالتفصيل الممل وغير الممل، طريقة إصلاح مختلف أعطال الأجهزة من شتى الماركات، كما يفضح تعمّد الشركات إضعاف صنع بعض القطع ليضطر المستهلك للجوء إلى تبديل الجهاز.
أربعون ألف ناشط يساهمون يومياً في تحديث الموقع والرد على استفسارات أصحاب المليوني نقرة شهرياً، لكن الشركات الكبرى تحاول الرد بطريقتها على مقاومة الناشطين لسياستها، إذ يشرح أحدهم أن الشركة العملاقة صانعة الألواح الالكترونية باتت تصبّ أجزاء الجهاز الواحد ضمن قطعة بلاستيكية متلاحمة بحيث إذا تعطّل جزء لا يمكن تفكيكه، بل وذهبت أبعد من ذلك بتصميمها نوع من البراغي التي لا يمكن التحكم بها إلا من خلال مفكات خاصة بالشركة، لتضييق الخناق على محاولات التصليح الفردية، وتنتهي الحلقة الوثائقية بأن الصراع مستمر بين أنصار الدفاع عن ثروات الطبيعة وعقل الإنسان وروحه، وبين أنصار الجشع والاستهلاك المتهوّر على حساب القيم والمثل العليا.
خلاصة القول: مخطئ من فكّر أن حديث هذا الصباح كان هجوماً على الشركات العالمية الكبرى غير العابئة بحماية البيئة، لأن المقصود أساساً هو التمني بأن نرى على شاشاتنا التلفزيونية العربية هذا النوع من البرامج التي تشرح للمشاهد العادي، بعيدا عن التعالي والتقعر والتذاكي والاستغباء، طبيعة الرهانات الكبرى في عالم اليوم، وتطرح أفكاراً لمعالجة الأخطاء، فيشعر بعد المشاهدة أن ذكاءه ازداد مثقال ذرة.. وإن ظل يردد مع زياد الرحباني: "شو هالإيام.."