صحيفة تشرين: توقف العشرات من المشروعات الحكومية بسبب الفساد والمخالفات

كثيراً ما يطرح اقتصاديون ومراقبون تساؤلات حول الطريقة التي تخصص فيها الموازنات للمشروعات الحكومية وطريقة الإنفاق على هذه المشروعات, وما الآليات التي تطبق في الرقابة على تنفيذ هذه المشروعات التي غالباً ما تكلف الخزينة العامة للدولة مبالغ كثيرة دون أن يكون تنفيذها متطابقاً مع الشروط الفنية التي تحددها الجهات المعنية بالمشروع..
والسؤال الذي يطرح ذاته: ما الطرق التي يمكن اتباعها لضبط الانفاق على المشروعات الحكومية ومراقبة تنفيذها, وهل تكمن المشكلة في طريقة وضع دفاتر الشروط أم في غياب دراسات الجدوى أم في مراحل التنفيذ الأخرى؟.
الهدر.. في الإنفاق الاستثماري
الدكتور إبراهيم العدي الأستاذ في كلية الاقتصاد والتجارة (جامعة دمشق) أشار إلى أنه إذا انطلقنا من الموازنة العامة للدولة في عام 2011 فقد كانت نسبة الإنفاق الجاري 60% والاستثماري 40% وهذه النسبة تطورت بشكل تراجعي في موازنة 2012 لتصبح نسبة الإنفاق الاستثماري 28% والجاري ارتفع من 60% إلى 72%.. وأضاف العدي: إن الإنفاق الاستثماري لا يعني استثماراً دائماً حيث إن تشييد الأبنية والعقارات هو إنفاق استثماري أيضاً وهو لا يخلق فرص عمل دائمة وإنما مؤقتة.. أي إنه غالباً لا يخصص الإنفاق الاستثماري لاستثمارات على المدى البعيد بل إن قسماً كبيراً منه ينفق على البناء وحتى الترميم.. ولو فتشنا عن مكان الهدر لوجدناه في الإنفاق الاستثماري كما الحال في تبديل الأرصفة في كل عام!.. وأكد العدي أن الهدر مرتبط بالفساد ويكمن الفساد في الإنفاق الاستثماري على مبدأ أنه (لا يوجد عقد سرقة من دون عقد نفقة) وحتى يتم تنفيذ مشروع ويرتشى منه يجب أن ننفق.. وألمح إلى أنه يتم تأخير المشروعات الاستثمارية حتى تقع بيد شخص معين للحصول على عمولات وسمسرة.. ورأى العدي أن جزءاً من الإنفاق الاستثماري يتحول إلى ضرائب تعود وتدخل إلى خزينة الدولة شارحاً أن القانون رقم 60 يفرض ضريبة على أعمال التعهدات التي تتم للأبنية الحكومية وتصل الضريبة التي تترتب على المتعهد إلى 4% لذلك يقوم المتعهد بزيادة أرقام تعهداته بحيث تدفع الضريبة من أموال المشروع وليس من أمواله.. أي إن جزءاً من الإنفاق الجاري يتحول لضريبة تدفع لخزينة الدولة من جديد..
وحول أهمية دراسات جدوى المشروعات لإقامة مشروعات جدية ومضمونة أردف العدي قائلاً: إن دراسات الجدوى الاقتصادية للمشروعات مثل مخططات البناء في القرى حيث يلزمون من يقوم بالبناء بأن يعد مخططاً لكنه في النهاية يبني على هواه.. وكذلك دراسات الجدوى الاقتصادية فهي من المكملات الشكلية للشروط التي يتقدم بها التاجر للقيام بمشروع.. وكذلك اللجان الموجودة كلجنة الشراء التي تزيد من قيمة الفواتير لتأمين الضريبة التي تحدثنا عنها..
وعندما سألنا الدكتور العدي عن الحل رأى أنه ببساطة يكمن بوجود تشريعات شفافة وجديدة وخاصة أن القوانين الحالية تسمح بحدوث حالات فساد.. ولابد من إعطاء دور أكبر للجامعات في الدراسات والإشراف على المشروعات وإطلاق حرية الإعلام والصحافة في الرقابة عليها.. هذا بالإضافة إلى الرقابة الداخلية والخارجية على تنفيذ أي مشروع خلال العمل وليس عند التسليم فقط.. فعند التسليم تكتشف أخطاء كبيرة في الشكل والمضمون والمواد وتتجاوز الأخطاء نسبة 30% ويتم تغريم المتعهد بنسبة 4 إلى 5% وبكل بساطة يقارن المتعهد بين العقوبة وأرباحه فيختار العقوبة مقابل أرباح كبيرة تغطي أضعاف العقوبة!.. ولا بد من مراقبة المناقصات وخاصة الكبيرة منها من قبل جهات عديدة ويمكن أن يتم إعلانها على التلفزيون الرسمي.. فليس من المعقول أن نستمر في دفع أموال طائلة على مشروع لا نستخدمه.. أليس هذا هدراً للمال العام؟
دفاتر الشروط وتمويل المشروعات
المهندس محمود عنبر نائب رئيس الفريق الفني لمشروع الحكومة الإلكترونية رأى أن الجهة التي تنفق المال العام هي المسؤولة عن نتائج ماتقوم به من أعمال أو مشروعات، وفي حال عدم اعتمادها للمعايير المعتمدة، وعدم التزامها بما ورد في استراتيجية الحكومة الإلكترونية التي اعتمدت من قبل مجلس الوزراء، فيقع عليها تبرير ما تفعله، خاصة في المشروعات التي يزيد حجمها على مبلغ معين، حيث إن التمويل يمكن أن يستخدم في أماكن أكثر جدوى. ومن ناحية أخرى، فإن الإنجاز في مجال مبادرة الحكومة الإلكترونية ستتناسب معدلاته حتماً مع التمويل المتوافر، ومع آليات إنفاقه ومدى انسجام هذه المشروعات مع الاستراتيجية المعتمدة.
وأضاف: إن معظم دفاتر الشروط التي تعد حالياً تعاني من كونها تطرح المشروع من وجهة نظر الجهة المنفذة فقط، وذلك دون أن يكون هناك وثائق للمشروعات كما نصت عليها معايير تقانات المعلومات والاتصالات التي اعتمدت في سورية في العام 2009.
وأشار عنبر إلى أنه من المفيد الإطلاع على ماهو متوافر لدى القطاع الخاص من إمكانات للتنفيذ، ولكن يجب أن يطرح المشروع من وجهة نظر الجهة الحكومية المستفيدة، وأن يغطي كل النقاط التي يجب العمل عليها، وهذا الأمر من مصلحة الطرفين، فالعديد من المشروعات الحكومية لاتنجح ليس بسبب أن الجهة المنفذة لم تنفذ ما يفترض أن تقوم به، ولكن بسبب وجود العديد من الأعمال التي يتم اكتشافها لاحقاً، والتي لاتعتبر جزءاً من المسؤولية التعاقدية للجهة المنفذة، ولكنها في الوقت نفسه ضرورية لإنجاح المشروع.
وألمح أنه لأجل ذلك، كان يفترض أن يكون هناك بند مستقل لموازنة مشروعات الحكومة الإلكترونية، وأن يتم رصد هذا المبلغ لمشروع ما وفقاً لآلية واضحة تضمن أن لايطرح أي مشروع لايمتلك وثيقة مشروع متكاملة وفقاً لمعايير تقانات المعلومات والاتصالات المعتمدة في سورية، والتي تساعد في ضمان عدم وجود مخاطر كبيرة تمنع تحقيق المشروع لأهدافه، والتي بدورها يجب أن تصب في الأهداف العامة لاستراتيجية الحكومة الإلكترونية.
ومن الممكن في حال عدم وجود تمويل حكومي كاف أن يتم الاعتماد على الشراكة بين القطاعين العام والخاص لتأمين التمويل المطلوب، وهذا الأمر مستخدم بشكل واسع في مشروعات الحكومة الإلكترونية حول العالم.
تفعيل قانون العقود
الدكتور مطانيوس حبيب الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق رأى أنه بالإمكان ضبط الإنفاق على المشروعات الحكومية ومراقبة التنفيذ من خلال تفعيل قانون العقود واعتماد مبدأ طرح المناقصات بصورة نزيهة فهذا كفيل بالحصول على أفضل الشروط لتنفيذ المشروعات الحكومية فيما إذا جرت الإعلانات وفضت العروض بصورة شفافة وأتيحت للصحافة حرية متابعة جلسات لجان المناقصات لنقل ما يجري فيها إلى الجمهور بصورة دقيقة. وهناك أسلوب آخر تلجأ إليه الشركات الكبرى في تنفيذ مشروعاتها وأعتقد أنه يمكن تطبيقه على تنفيذ المشروعات العامة يتلخص بالخطوات التالية:
يجري تقدير التكاليف التقريبية للمشروع المراد تنفيذه بعد تحديد مكوناته والأهداف المتوخاة منه ويحفظ الرقم التقديري بظرف مختوم لدى آمر الصرف.
ثم تقوم اللجنة الفنية والمالية القانونية التي وضعت التكلفة التقديرية بالإعلان عن طلب تأهيل الشركات القادرة على تنفيذ هذا المشروع وتكون فترة الإعلان طويلة مع تمكين الشركات الراغبة بمراجعة اللجنة وطلب التفاصيل والمعلومات اللازمة الضرورية لها لإعداد ملف تأهيلها.
وخلال فترة التأهيل تضع اللجنة مسودة دفتر الشروط الفنية والحقوقية اللازم لتنفيذ المشروع.. وبعد انتهاء فترة التأهيل تدرس اللجنة طلبات التأهيل وتقرر الشركات المؤهلة للتنفيذ وترفع قائمة بها للإدارة المختصة ويمكن الاستعانة بمكاتب خبرة للمساعدة في إعداد هذه الخطوات السابقة.
أما بعد انجاز الخطوات السابقة فتقوم الإدارة بالإعلان عن المشروع وتسمي لجنة المناقصة من خارج أعضاء اللجنة السابقة لفض العروض وتحديد العارض الناجح ويقتصر دور الإدارة التنفيذية على مناقشة العارض المرشح في إمكانية تخفيض السعر إذا كان أعلى من التكلفة التقديرية وحتى لو كان أدنى منها أيضاً في حين إن مراقبة التنفيذ ستكون من قبل الفنيين في المؤسسة أو الشركة المعنية وتبقى الشفافية مطلوبة في كل هذه المراحل لاستبعاد روائح الفساد من أي مشروع.
كلمة أخيرة
منذ سنوات تتحدث وزارة المالية عن تعديل قانون العقود من أجل ضبط عملية طرح المناقصات وفض العروض, لكن عملياً لم يعدل بعد هذا القانون الحيوي الذي يشتكي منه الجميع سوى المستفيدين من المناقصات الضخمة التي ما زالت تطبخ (على نار هادئة) بالتعاون بين بعض الجهات العامة والمتعهدين الكبار الذين أثروا ثراء فاحشاً على حساب أموال القطاع العام.. والسؤال الذي نطرحه: في ظل تشديد حكومي على منع الهدر إلى متى تستمر هذه التجاوزات في التراخي عن مراقبة تنفيذ المشاريع والإنفاق عليها؟
صحيفة تشرين