ظاهرة السكن العشوائي فـي المدن العربية ..مدينة دمشق نموذجاً

يشكل الإسكان المعضلة الرئيسية للعديد من المدن الرئيسية حيث يزداد الطلب على مساكن العزاب والوافدين، والمشروعات الإسكانية عاجزة عن تلبية احتياجات المواطنين على اختلاف مستوياتهم ، وهذا العجز يسبب قيام ضواحي الصفيح على أطراف المدن،

 

وتقدر بعض الدراسات أن 30 – 50 بالمئة من سكان المدن في العواصم العربية تعيش في ظروف سكنية غير ملائمة كما أن الكثافة السكانية تصل في بعض المناطق السكنية إلى 24,000 نسمة / كم2 إضافة إلى زحف مناطق العمل والصناعات والورش والكراجات إلى المناطق السكنية، وتأزم الأوضاع الصحية نتيجة لمشكلة النفايات والتلوث الجوي بسبب قرب المطارات والأوتوبيسات من المساكن، وكذلك التلوث البري والبحري، ومشكلة تصريف مياه المجاري (اختلاط مياه المجاري مع مياه الشرب) والأمطار التي تعطل السير ، بحيث أن الكثير من المدن العربية بات مطوقاً بأحزمة من السكن العشوائي (أو أحياء المخالفات) الذي يجرف في طريقه أراضي زراعية قيمة والذي يوفر البيئة التي ترتع فيها العديد من الأمراض البيئية منها والعضوية والنفسية والاجتماعية ، وانعدام الرعاية الصحية والترفيه، ثم النسبة العالية للعطالة والتوتر والنظرة المتدنية إلى الذات، وكل هذه العوامل تتضافر لخلق بيئة عليلة.

إن مشكلة السكن العشوائي ناتجة بطبيعة الحال عن عملية الهجرة من الريف إلى المدينة "التحضر" وناتجة أيضاً عن عدم وجود تخطيط عمراني مسبق قادر على استيعاب وتنظيم الزيادة السكانية في المدن في هذه المقالة سنتناول إحدى المدن التي تعاني هذه المشكلة وهي "دمشق" كحالة مأخوذة للدراسة، وهي لا تختلف ولا يختلف عنها (من حيث الخطوط العريضة والملامح الأساسية) باقي المدن العربية، لأن المشكلة ناتجة عن أسباب مشتركة بين المدن العربية .

السكن العشوائي في مدينة دمشق :

تشير إحدى الدراسات حول مفهوم " المخالفة في التخطيط التنظيمي " أن مناطق المخالفات أو السكن العشوائي هي رد فعل جماعي لسكانها على استثناء جماعي لهم فرضته شروط ونتائج المخطط التنظيمي" ، وترى هذه الدراسات أيضاً أن ظاهرة المخالفة تكشف قصور المخطط التنظيمي بإعطاء الناس القائمين بها الفرص المناسبة لأداء نشاطاتهم في إطار مناسب ضمن هذا المخطط ، وترجع دراسات أخرى قليلة أنجزت حول هذا الموضوع نشوء هذا النوع من السكن حول المدينة إلى أسباب عديدة ، يأتي في مقدمتها الأهمية الكبرى لمدينة دمشق كمركز صناعي تجاري إداري وثقافي مهم في القطر ، وهذا ما جعل المدينة أحد المراكز الرئيسية الجاذبة التي يقصدها المهاجرون بحثاً عن العمل أو الدراسة أو ممن أجبرتهم الظروف الخارجة عن أرادتهم للهجرة من داخل أو خارج القطر نحو دمشق ، وخاصة أولئك الذين دفعت بهم المعارك الحربية الإسرائيلية العربية في أعوام 1948 – 1967 من فلسطين ومن الضفة الغربية والجولان عام 1967 نحو دمشق والمدن السورية الأخرى إنَّ النمو السكاني الطبيعي والعوامل المذكورة آنفاً أديا إلى زيادة كبيرة للسكان في مدينة دمشق إذ أن عدد سكان المدينة عام 1960 كان يبلغ 530 ألفاً تضاعفت عام 1981 إلى 1,250,000 نسمة وأظهرت تقديرات المكتب المركزي للإحصاء أن عدد سكان دمشق وضواحيها قد بلغ مليوني نسمة عام 1989 إلاّ أن إحدى الدراسات حول الأحياء المخالفة في دمشق وضواحيها قدرت هذا العدد بنحو (3,5) مليون أي ربع سكان سوريا تقريباً في تلك الفترة، جدير بالملاحظة أن مدينة دمشق التي كانت نقطة جاذبة رئيسية لسكن المهاجرين في الستينيات لم تعد كذلك في ما بعد بخلاف العواصم الأخرى في العالم العربي ، حيث قامت التجمعات السكانية في ريف مدينة دمشق باستقطاب المهاجرين الذين لم يعد بإمكانهم تأمين مساكنهم في المدينة ، ومما يثبت ذلك أن نمو سكان مدينة دمشق بلغ 4,6 بالمئة مقابل 2,6 بالمئة في ضواحي دمشق بين عامي 1960 – 1970 م وانعكس هذا الوضع خلال فترة أعوام 1970 – 1981 فارتفع المعدل إلى 5,5 بالمئة من الضواحي وانخفض في المدينة إلى 3 بالمئة نتيجة للاكتظاظ السكاني في العاصمة وعدم قدرتها على استقبال المزيد من المهاجرين ، وبروز الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ولا سيما في مجال السكن التي أدت إلى تحول المهاجرين نحو أطراف المدينة وضواحيها ، وهناك أسباب أخرى لظهور السكن العشوائي في مدينة دمشق وضواحيها تكمن في عدم استطاعة القطاع الحكومي في مجابهة الطلب المتزايد على السكن الرخيص لإيواء هؤلاء القادمين ، وعدم وجود ستراتيجية عمرانية لمجابهة المشكلة ، ويمكن تقسيم هذه التجمعات العمرانية المخالفة حسب وظائفها إلى تجمعات سكنية أو صناعية أو مختلفة ترفدها مناطق تجارية مخالفة ، وقد تكون هذه التجمعات على شكل شريطي عندما ما تنتشر وتتوزع على طول الطريق ، وقد تكون كتلية تنتشر في جميع الاتجاهات ، وتنتشر هذه التجمعات العمرانية حول دمشق في جميع الاتجاهات في ما عدا الجهة الشمالية الغربية حيث لا تساعد التضاريس الطبيعية لجبل قاسيون على نشوء هذا النوع من السكن و تتميز هذه المناطق بارتفاع الكثافة السكانية إذ يبلغ متوسط هذه الكثافة ( 61 – 81 نسمة /كم2 عام 1991 ) و يمكن أن تصل هذه الكثافة في بعض المناطق كمنطقة مخيم اليرموك إلى 128572 نسمة /كم2 وهي أعلى كثافة سكانية في العالم ، أما من الناحية الفيزيائية فتتنوع مواد البناء المستعملة من بيوت بنيت من الخشب و الطين إلى بيوت بنيت من البلوك الأسمنتي مع سقف خشبي أو سقف من مادة الأترنيت الأسمنتية أو البيتون المسلح ، و هناك تفاوت كبير في توفير التجهيزات ضمن المساكن في هذه المناطق ، ففي حالات كثيرة تكون غرفة السكن هي المسكن و المطبخ في آن واحد، و قد تفتقر إلى الحمام. أما الكهرباء فأغلب تأمينها يتم بصورة غير شرعية ، و خصوصا في أطراف الأحياء الشعبية ، و بالرغم من أن الغالبية العظمى لسكان الأحياء المخالفة في دمشق قد قامت بشراء الأراضي المقسمة بصورة غير قانونية داخل أو خارج الحدود الإدارية للمدينة، فإنه يمكن ملاحظة حالات قليلة قد قام بها المواطنون ببناء مساكنهم على أراض مستملكة لصالح الجهات الحكومية (أملاك الدولة)، و من الملاحظ و بصورة واضحة إن عدوى ارتفاع الأسعار ارتفاعا هائلا للأراضي و المساكن قد بدأت تظهر حتى في هذه الأحياء ، و إن كانت لا تزال أسعارها أقل بكثير مما هو عليه في المناطق المنظمة و هذا ما جعل إمكانية تأمين قطعة أرض أو مسكن في هذه الأحياء صعبا جدا على غالبية الشريحة الاجتماعية التي تتوجه عادة إلى مثل هذه الأحياء و التي معظمها من ذوي الدخل المحدود، و تجدر الإشارة إلى أن تحولات اقتصادية و اجتماعية جديرة بالاهتمام و العناية قد بدأت تظهر بل ظهرت فعلا في المناطق الريفية المجاورة لدمشق ، و التي توسعت كثيرا و أضحت أماكن جذب للسكان الذين لم يستطيعوا تأمين السكن في المدينة ...

إجراءات لحل المشكلة : يمكن تصنيف إجراءات لحل المشكلة إلى فئتين:

1- إجراءات ذات طابع علاجي- تنفيذي بعد ظهور السكن العشوائي

2- إجراءات ذات طابع وقائي –تخطيطي مسبق قبل ظهور السكن العشوائي

أولاً الإجراءات العلاجية : و تتضمن خيارين :

الخيار الأول هو القبول باستمرار النمو غير المرخص في المدن، و بالتالي القبول بالتمدد الفوضوي – العشوائي –لها ، وهذا خيار غير مقبول، لأن ذلك يؤدي إلى زيادة حجم المشكلة و خروجها عن إمكانية الحل الناجح ، و خاصة إذا لاحظنا الصعوبات الكبيرة التي تعترض الجهات المسؤولة عند محاولتها التدخل لتحسين مستوى هذه الأحياء و إمدادها بالخدمات الحضرية اللازمة.

الخيار الثاني : يتضمن هذا الخيار إزالة هذه الأحياء و إعادة إسكان المواطنين الساكنين فيها، و قد أثبت هذا الخيار عدم واقعيته و ذلك لعدم إمكانية تنفيذ برامج ضخمة لإسكان هذه الأعداد الهائلة من السكان ، كما يجب أن يؤخذ بالحسبان هدر الأموال و كميات من المواد كبيرة التي استخدمها سكان هذه الأحياء و المناطق لبناء مساكنهم ، و من جهة أخرى فإن مناطق السكن العشوائي لا تحتاج إلى القمع الذي أثبت عدم جدواه بقدر ما تحتاج إلى النظرة الشاملة التي تدعم التوجهات نحو تزويدها على الأقل بالحد الأدنى من الخدمات أي محاولة تنظيمها و ترتيبها (وهذا ما تم اللجوء إليه في سوريا)

ثانيا الإجراءات الوقائية (التخطيط المسبق ) :

يمكن تلخيص الإجراءات الوقائية بالنقاط الآتية: 1- إن المدينة جزء من المجتمع تتكامل مع المدن الأخرى و ترتبط معها و مع القرى و البادية علاقات اقتصادية و اجتماعية و ثقافية ، و لذلك يجب وضع سياسات سكانية للدولة تتضمن معدلات النمو و مستويات الخصوبة و الوفيات ووضع دراسات بشأن توزيع السكان بين المناطق الريفية و الحضرية لتكون هذه السياسة قاعدة للتخطيط التنموي .

2- ربط السياسة السكانية مع برنامج للتربية المتكاملة تهدف إلى تشجيع بناء نمط متوازن للمستوطنات الحضرية (المدن الصغيرة و المتوسطة و الكبيرة ) و كذلك التركيز على تطوير الصناعات الريفية ، و توفير الخدمات المتنوعة للتخفيف من حدة الفروق بين نمط الإنتاج و نمط الحياة بين الريف و الحضر .

3- ضرورة وجود التشريعات التي تحدد سوق العقارات و تحد من الاستخدام غير المتوازن للأراضي ( باعتبار أن ارتفاع أسعار الأراضي يعتبر عنصرا معوقا لتنفيذ المشروعات التنموية في المدن ) و تساعد في تمكين الإدارات المحلية من تطبيق التخطيط المناسب لمختلف الفئات الاجتماعية .

 4- مراعاة التوزيع الايكولوجي للصناعات بين المدن و القرى و إنشاء المؤسسات الهيكلية اللازمة لها و زيادة الاستثمارات الإنتاجية سواء النابعة من النفط أو من التحويلات الخارجية أو من الواردات و الإنتاج المحلي و إنشاء مدن ذات وظائف إنتاجية :

وإضافة إلى النقاط الأربعة السابقة و بالتوافق و الانسجام مع مضامينها فإن الحل الأسلم و الأ نجح هو إنشاء مناطق التوسع و الاحتياط لاستيعاب الزيادة السكانية العادية و الطارئة...

مناطق التوسع و الاحتياط :

تتناسب أبعاد هذه المناطق في الدرجة الأولى مع عدد سكان المدن التابعة لها بغية تأمين احتياجاتهم ، إلا أن خصوصيات الأراضي المحيطة بالمدن و الثروات الموجودة فيها، و كذلك الواقع المناخي تلعب دورا في رسم الحدود النهائية لهذه المناطق ، و تستوعب هذه الأراضي أولاً المناطق السكنية اللازمة لاستيعاب الزيادتين الطبيعية و الطارئة في عدد السكان الذين سينتقلون من أماكن سكنهم الحالية بعد تنفيذ المخططات التنظيمية الجديدة نتيجة لتحسين الواقع السكني ، و إيجاد التوازن في الكثافة السكانية مع كامل مساحة المدينة ، وتتطلب المناطق السكنية الجديدة ربطا جيدا من المناطق الصناعية ،و لذلك فإن الحدود المرسومة لمناطق التوسع و الاحتياط يجب أن تساعد و أن تستوعب هذه الشبكة و أن تؤمن في الوقت نفسه ربطا جيدا للمدينة و توسعها بالشبكة العامة للمواصلات على المستوى البعيد، كما أنّ هناك ضرورة لتخفيض مناطق التوسع و الاحتياط لاستثمار الثروات الطبيعية و تحسين الواقع الصحي و التخفيف من ظواهر التلوث و ذلك لاستيعاب الصناعات الملوثة أو الخطيرة أو السرية المنقولة من المدينة ، و تحتاج الصناعات الجديدة التي ستنشأ أيضا إلى مساحات كبيرة من الأراضي لضرورات الحماية البيئية و الأمنية .

إن المساحة اللازمة لاستيعاب تطور السكان على المدى القريب تعادل ثلث مساحة المدينة الحالية ، و يمكن لهذه المساحات أن تزيد أو تنقص حسب كثير من الظروف ، و يجب أن تكون الأراضي المخصصة لمناطق التوسع و الاحتياط محيطة بالمدينة ما عدا الحالات التي يظهر فيها عارض طبيعي يمنع ذلك – بحر – نهر – جبل .....الخ عندها ، يمكن لمناطق التوسع و الاحتياط أن تبنى خارج حقول الأشجار و الغابات و بعيدا عن أماكن الاستجمام و الراحة ، و تعزل الصناعات الخطرة و السرية و الملوثة بمناطق خضر كثيفة للحماية البيئية .

التوزع السكاني فـي مناطق التوسع و الاحتياط:

تدرس المخططات التنظيمية عادة لفترة تتراوح بين 15-25 سنة و على هذا المخطط أن يستوعب مجموعة الزيادتين الطبيعية و الطارئة إضافة إلى السكان الذين ينتقلون من المدينة رغبة في تحسين واقعهم السكني أو السكان الذين أزيلت مساكنهم،إما للتخفيف من الكثافة ( كما في المراكز التاريخية للمدن ) أو لاستكمال المساحات اللازمة للخدمات أو لتوسيع المساحات الخضر في مراكز المدن أو تحسين شبكة المواصلات ، و يمكن تصنيف سكان هاتين المنطقتين ضمن ثلاث فئات :

1- الفئة الثابتة و يعمل سكانها في الصناعة و الزراعة الموجودة ضمن المنطقة .

2- 2- الفئة التي تعمل في المدينة الأم و تقطن في مناطق التوسع .

3- الفئة الأخيرة و هي فئة العاملين لفترات زمنية محددة و فئة المصطافين الذين يقضون أوقات عطلهم أو أوقات فراغهم في المنطقة .

و لتأمين الحد الأدنى من الخدمات على نحو اقتصادي ، و خاصة المدارس الابتدائية يجب ألاّ يقل عدد سكان التجمعات الجديدة عن 3000 نسمة. أما التجمعات السكانية التابعة للمدن الكبيرة فيفضل أن تكون كبيرة إلى حد ما من 50000- 80000 نسمة لكي تؤمن لها الخدمات اللازمة و من مختلف الدرجات.

 

 

وكالات