عالحور العتيق...

 

هيام حموي. البعث

عندما بدأت موضة "المدوّنات" مع مطلع الألفية الجديدة،أو ما يُعرف باسم بلوغ "blog " على الإنترنت، وكان هذا قبل انتشار الشقيقين الأصغرين "فيسبوك" و"تويتر"، باشرتْ إحدى الصديقات، من جيل يصغرني بجيل على الأقل، ومن الضالعات في مسائل التكنولوجيا، بتدوين نصوص تتفاوت في قيمتها الأدبية والجمالية، لكن هذه النصوص باتت تلاقي من الإعجاب والتقريظ لدى نادي المتابعين من رواد المدونات ما فتح شهيتها للتوغل أكثر في المضمار الجديد، حيث راحت تتباهى أمامي يوماً بأنها أضافت صوراً تزيّن كتاباتها، وفي يوم آخر لفتت انتباهي إلى أغنية نادرة "أنزلتها" على الصفحة، حتى إنها هلّلت وكادت تزغرد يوم تمكنتْ من إدراج مقطع فيديو مصوّر بكاميرتها المتطورة الأداء وفق معايير تلك الفترة.

 


جاءت إليّ مرة تتحدّاني وتستفزني بأني غير مواكبة للعصر، وأني سأصير خارج الزمن إذا ما ظللت على حال الرفض لهذه الوسيلة الجديدة للتعبير، وعيّرتني بأميّتي التكنولوجية، فقررت أن أواجه التحدّي بأن أثبت لها أن المسألة ليست نوعاً من العجز عن متابعة آليات التعبير الحديثة، إنما هي نتيجة موقف معيّن رافض لتقنية تباعد بين الإنسان والواقع، وتدفعه إلى أحضان عوالم افتراضية تستنزف وقته وإمكاناته دون جدوى فعلية، اللهم إلا إذا كان لديه الكثير من الوقت والمال لبعثرته فيما لا يغني ولا يثمر سوى إطراء بعض الغرباء الذين يمرّون عرضاً في المدوّنة ويتركون تعليقاتهم المذيّلة بتواقيع أسمائهم المستعارة التي تدلّ على تلكؤ طويل في دنيا المراهقة، ومع ذلك... قبلت التحدّي...

 


 

ولجت بوجل وتوجّس أجواء المدوّنات، قرأت بإمعان الشروط والتعليمات التقنية، نفذتُها كما شرحوها، فإذا بي، من حيث لا أدري، أصبحت من رأسماليي "الافتراض"، وامتلكت مدوّنتي الخاصة!!! كتبت نصاً عاطفياً لفت بعض الأنظار، ثم تجرأت وكتبت نصاً شبه فلسفي، فاستوقف بعض المارة في دروب الوهم والغموض، أثنوا على كلماتي فشعرت بالزهوّ كما كان حال صديقتي المتحدّية، انتظرت أن أنجح في إضافة مقطع موسيقي قبل أن أعترف لها بأني دخلت في عالم "النخبة" الذي تنتمي إليه...

 


لا يمكن وصف شعوري بالخيلاء وأنا أرقب علامات الدهشة العارمة التي علت وجهها عندما كشفتُ أمامها سرّي التكنولوجي، تقبّلتُ تهنئتها بحبور غامر، وأسعدني اعتزازها بصداقة إنسانة "ناضجة" مثلي لا تتراجع أمام تحدّيات العصر... وسقطتُ رغماً عني، وإلى حين، في فخ وهم الإعجاب الافتراضي الذي لا بد ويقود إلى نوع من الإدمان على البحث عن رد فعل المدعو"نوستالجيا" عاشق الحنين، أو رأي "صاحب القناع الحديدي" "آيرون ماسك"، أو الآنسة الوحيدة "مس آلون"...

 


في إحدى جولاتي الاستكشافية داخل عالم المدوّنات اكتشفت بدعة رائعة، بإمكاني أن أدهشهم أكثر بإنشاء ما يمكن اعتباره "متحفي الشخصي". اخترت الإطار الأقرب لمزاجي، وهو عبارة عن تصميم لجهاز راديو من سنوات الخمسينيات، ورحت أبحث عن صور الشخصيات العامة التي أثّرت في تكويني النفسي، فتجمّعت لدي صور لقرابة أربعين علماً من أعلام الأدب والفن والإنسانية، سيطول شرح تفسير سبب اختيار كل منها، ولكن يمكن، عند ذكر بعضها، استشفاف الخيط الذي يربط بينها، وها هي بترتيب مبعثر: أول اللائحة المهاتما غاندي، المقاوم المسالم بلا عنف، من سورية شكري القوتلي: آمن بالوحدة العربية إلى أبعد حدود الوطنية، صباح فخري ونزار قباني: عشِقا عملهما إلى أبعد حدود الإتقان، صورة عبد الحليم يقبّل يد أم كلثوم لاحترامه مكانة من سبقوه في العطاء، شوبان وموتزارت لعبقريتهما التي تسمو بالنفس إلى حدود نكران الذات، فيروز "جسر القمر" وزياد" مش كاين هيك تكون".. وهل من ضرورة لشرح المبررات؟ أندريه بريتون مؤسس الحركة السريالية، والشاعر بودلير لكون دراستي تناولتهما بالتفصيل، كتاب "الأمير الصغير" المطلّ من كوكبه البعيد ليروي عشقه لوردة الحياة ، مروان خوري بقنبلته الرومانسية الغنائية "كل القصايد"، مارلين مونرو وأودريه هيبورن ولسلي كارون لاكتمال الأنوثة الهشة في السينما، رباعي "البيتلز" الذي رعى حيوية جيل الستينيات، وما انتهى التعداد إلا لضيق المساحة...


باعدتني الحياة عن مدوّنتي، كدت أنساها لولا بحثي عن معلومة أعادتني صدفة إليها، وإذا بصور متحفي ما زالت تتحرك في إطارها كما لو أني تركتها للتو... قلت لنفسي: وكأنني كتبت أساميهم "عالحور العتيق"، وقلت أيضا: نعم يمكن ترويض التكنولوجيا