عبد الحليم خدام والمجتمع المدني

حين ارتكب عبد الحليم خدام خطيئته، أو فلنقل جريمته في اتهام المواطنين الشرفاء والمثقفين الداعين إلى استعادة المجتمع المدني مكانته في المجتمع، حين ارتكب جريمته الطائشة هذه في اتهام الخائفين على مجتمعهم بالعمالة للسفارات الأجنبية فأذعرهم وجعلهم ينكمشون، بل كان منهم من ابتعد تماماً عن أي عمل عام، فتهمة العمالة للسفارات الأجنبية تهمة مهينة ومحِطَّة لكرامة ووطنية الناس الذين اتهموا بها.

 

 

 

حين ارتكب عبد الحليم خدام هذه الفعلة لم يكن يعرف أنه قد وضع المجتمع ككل في حالة رهبة واستعداد لفعل أشياء كنا نتمنى أن يجتازها دون الوقوع في هذه المحظورات، فما المجتمع المدني إلا نقابات حقيقية ممثلة للعاملين فيها تمثيلاً حقيقياً، وليست معيَّنة بطريقة أو بأخرى فلا تمثل أعضاءها، وما المجتمع المدني إلا أحزاب سياسية حقيقية ذات رؤى سياسية تمثل قطاعات أصيلة في المجتمع، وليست أصداء لحزب واحد ذي تسميات مختلفة حتى صارت النكتة المعروفة: الحزب الفلاني لصاحبه الحزب الفلاني، وبذا انتفت الحياة السياسية الحقة التي تمثل القطاعات التي تبنتها وهي الإطار الشرعي الصريح لتيارات سياسية موجودة في المجتمع، وما المجتمع المدني إلا صحافة حرة تملك حق النقد والكشف عن الخطأ في المجتمع والدولة. وليس من مجتمع أو دولة بلا أخطاء، ولكن الصحافة الحرة والممثلة للشعب هي التي تلاحق الخطأ وتكشفه وتعلن عنه، فتقوم الحكومة بإصلاح أخطائها أولاً بأول ولا تتراكم فتصبح خطايا بدلاً من الجنح التي يمكن إصلاحها.

 

 

 

وما المجتمع المدني إلا القضاء العادل الحر بعيداً عن تدخلات الدولة في شؤونه وقديماً قيل لقاض رفض العمل في القضاء: لماذا ترفضه وأنت من يمكن له أن يحقَّ الحق ويعدل العدل، فقال القول المأثور: قاض في الجنة وقاضيان في النار، فماذا إن كان القضاء قد فسد بتحزبه وبإصغائه إلى الهواتف الناصحة والمشيرة والراغبة في جرِّ العدل إلى حضنها، وبذا تضيع حقوق المظلومين، ويصبح القوي والثري والمتنفذ هو صاحب الحق في كل قضية وعمل ومهنة يمارسها. ‏

 

طبعاً لتسيُّد المجتمع المدني في المجتمع وجوه كثيرة لست في وارد إيرادها في هذه الزاوية القصيرة، ولكن عبد الحليم خدام أضاع على الشعب السوري فرصة هادئة لاستعادة مجتمعيته، ودخوله طريق التقدم في الحراك الاجتماعي العالمي، وسأذكر مثالاً صغيراً على ما يمكن لغياب المجتمع المدني فعله, فأنا أسكن في حي متوسط في دمشق. وتعداد ساكني هذا الحي يقارب الثلاثمئة ألف نسمة وهذا رقم يصلح لمدينة متوسطة، بل لعاصمة كدمشق في بدايات القرن العشرين. هذا الحي ليس فيه ناد ثقافي واحد يمكن لأبناء الحي الاجتماع فيه ومناقشة مشكلاتهم، هذا الحي ليس فيه ناد اجتماعي واحد يمكن لأبناء الحي بناء مجتمعيتهم فيه. هذا الحي ليس فيه ناد رياضي واحد يمكن لأبناء الحي من الشبان تصريف فائض طاقتهم فيه، والتعبير عن تميزهم دون عنف، والنادي الرياضي الوحيد في هذا الحي هو ناد للضباط ويحرم على المدنيين المشاركة فيه. ‏

 

هذا الحي ليس فيه مقهى معقول يمكن للناس الاجتماع فيه وبناء مدينيتهم بعيداً عن القرية التي جاؤوا منها أصلاً، أو من الحارة الشعبية التي جاؤوا منها، وللقرية وللحارة لكل منهما سلم قيم خاص بهما، أما المدينة أو الحي الكبير بلا نواد ولا مقاه ولا مراكز ثقافية ولا سينما ولا مسرح؛ فلن تستطيع بناء علاقاتها المدينية ولا إذابة الشرائح القادمة إلى المدينة الحديثة وصناعة هذه المدينة. ‏

 

وما نتيجة هذا كله؟ نتيجة هذا كله قيام المساجد الكثيرة وهذا متاح ومسموح به وهذا شيء جيد لو كان ضمن نشاطات كثيرة ومتعددة للمجتمع، ولكن لا أن تحل محل النادي الثقافي والرياضي والاجتماعي فيتشكل المجتمع ضمن سلم قيم ليست سلم قيم المجتمع المدني الذي طردنا منه عبد الحليم خدام بفتواه غير الكريمة.‏

 

 

 

 

 

خيري الذهبي - تشرين