عبد الرحمن الكواكبي .... أول العلمانيين العرب

عبد الرحمن الكواكبي .. أول العلمانيين العرب
1854 - 1902
سهير الذهبي - شام نيوز
كثيرون من ابناء القرن الحادي والعشرين يعتقدون انهم من اخترع الرغبة في التعايش بين المذاهب والاديان في الوطن العربي, ولايعرفون عن ذلك الجيل الجميل الذي وجد في القرن التاسع عشر ممن تاثر بالثورات الكبرى في اوروبا كالثورة البورجوازية الفرنسية وثورة الفحامين في ايطاليا, فلم تكن بلاد الشام جزيرة معزولة رغم الخيمة العثمانية التي غطت على المنطقة طويلا , فلقد جاء نابوليون وجاء ابراهيم باشا وكانت حلب مركز استقبال الثوريين الاوروبيين الهاربين بعد سييطرة الرجعية على اوروبا , ولم يكن نعمان القساطلي "صاحب الروضة الغناء في دمشق الفيحاء" وفرانسيس مراش "اول الروائيين العرب" وعبد الرحمن الكواكبي بدعـًا في ذلك الحين فلقد كانت ايضا مصر تضج بتاثيرات التحولات الكبرى فب اوروبا.
وكان لابد ان يظهر علم كبير معاصر للافغاني ومحمد عبده في الشام فكان عبد الرحمن الكواكبي .
"إن الهرب من الموت موت!..
وطلب الموت حياة!..
والخوف من التعب تعب!..
والإقدام على التعب راحة!..
والحرية هي شجرة الخلد, وسقياها قطرات الدم المسفوح..
والإسارة (العبودية) هي شجرة الزقوم, وسقياها أنهر من الدم الأبيض"
قد تلخص هذه المقولة التي كان يرددها الكواكبي سيرة حياته وسعيه نحو تقدم بلاده وتخلصها من الجهل والتخلف والاستبداد ....
ولكن من هو عبد الرحمن الكواكبي؟
حياته:
عبد الرحمن الكواكبي 1854 - 1902 مفكر وعلامة سوري , ومن رواد الحركة الإصلاحية العربية.... كاتب ومؤلف ومحامي وفقيه شهير........
ولد في حلب لعائلة لها شأن كبير. ويقال انه من اصل فارسي.. لم يكتفف الكواكبي بالمعلومات المدرسية، فقد اتسعت آفاقه أيضا بالاطلاع على كنوز المكتبة الكواكبية فاستطاع أن يطلع على علوم السياسة والمجتمع والتاريخ والفلسفة..
بدأ حياته بالكتابة إلى الصحافة وعين محرراً في جريدة الفرات الحلبية , ويرجح حفيده سعد زغلول الكواكبي أن جده عمل في هذه الصحيفة الرسمية سنتين تقريبا، براتب شهري قدره ثمانمئة قرش سوري....... وقد شعر أن العمل في صحيفة رسمية يعرقل طموحه في تنوير العامة وتزويدها بالأخبار الصحيحة، ولذلك رأى أن ينشئ صحيفة خاصة، فأصدر في حلب صحيفة الشهباء عام 1877 , وكانت أول صحيفة تصدر باللغة العربية، وسجلها باسم صديقه كي يفوز بموافقة السلطة العثمانية ايامها وبموافقة والي حلب.. لم تستمر هذه الصحيفة طويلاً، إذ لم تستطع السلطة تحمل جرأته في النقد.
وبسبب حبة للصحافة والكتابة تابع عمله الصحفي ضد الاستبداد فأصدر عام 1879 باسم صديق آخر جريدة الاعتدال التي سار فيها على نهج الشهباء , لكنها لم تستمر طويلا ايضا فتوقفت عن الصدور.....
بعد أن تعطّلت صحيفتاه الشهباء والاعتدال، انكبّ على دراسة الحقوق حتى برع فيها، وعيّن عضواً في لجنتي المالية والمعارف العمومية في حلب، ثم عضواً فخريا في لجنة امتحان المحامين للمدينة, واتخذ مكتبا للمحاماة في حي الفرافرة بحلب , كان يستقبل فيه الجميع من سائر الفئات ويساعدهم ويحصل حقوق المتظلمين عند المراجع العليا ويسعى إلى مساعدتهم ،وكان يؤدي عمله في معظم الأحيان دون أي مقابل مادي، حتى اشتهر في جميع أنحاء حلب بلقب (أبو الضعفاء).....
تقلد عبد الرحمن الكواكبي عدة مناصب في ولاية حلب , فبعد أن عين عضواً فخرياً في لجنتي المعارف والمالية، عين مديراً رسمياً لمطبعة الولاية، ورئيسا فخريا للجنة الاشغال العامة في حلب , وحقق في عهده الكثير من المشاريع الهامه التي افاد بها حلب والمناطق التابعة لها, وفي عام 1892 عين رئيسا لبلدية حلب....
استمر الكواكبي بالكتابة ضد السلطان عبد الجميد الذي كان في نظره يمثل الاستبداد، وعندما لم يستطع تحمل ما وصل اليه الامر من مضايقات من السلطة العثمانية في حلب, سافر الى الهند والصين وسواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا وإلى مصر, حيث لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان عبد الحميد، وذاع صيتة في مصر وتتلمذ على يديه الكثيرون وكان واحدا من أشهر العلماء......
أمضى الكواكبي حياته مصلحا وداعية إلى النهوض والتقدم بالأمة العربية, وقد شكل النوادي الإصلاحية والجمعيات الخيرية التي تقوم بتوعية الناس, وكان يدعو المسلمين لتحرير عقولهم من الخرافات, وكان يدعو الى إقامة خلافة عربية على أنقاض الخلافة التركية, وطالب العرب بالثورة على العثمانيين, الذين حملهم مسؤولية الرعية....
كانت له رؤية للحرية ومشكلات الاستبداد إذ ان الهدف بمنظوره من الديمقراطية والحرية والعدالة هو خدمة المجموع وسعادته, وهو لا يقصد فقط الحرية السياسية, بل كان يرى للديمقراطية مضمونا اجتماعيا, ويراها التزاما للإنسان إزاء مجتمعه, بقدر ما هي تحرير لهذا الإنسان.... ومن اشهر ما قاله الكواكبي في هذا المجال:
- لقد تمحص عندي أن أصل الداء هو الاستبداد السياسي, ودواؤه هو الشورى الدستورية.
- من أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم, واستبداد النفس على العقل.
ألف الكواكبي العديد من الكتب وترك لنا تراثا ادبيا كبيرا ,أهمها كتاب طبائع الاستبداد , والعظمة لله, وصحائف قريش... وله الكثير من المخطوطات والكتب والمذكرات التي طـُبعت, وما زالت سيرة وكتب ومؤلفات عبد الرحمن الكواكبي مرجعا هاما لكل باحث....
اول العلمانيين العرب:
السؤال الكبير الذي ظل الباحثون يطرحونه بشأن الكواكبي فهو: هل كان عبد الرحمن الكواكبي أحد رموز الإصلاح في القرن التاسع عشر علمانياً, يؤيد فصل الدين عن الدولة؟
يبدو ان الكواكبي كان فعلا اول العلمانيين العرب , فالرجل كان يقول في مؤلفاته ودراساته:"هذه أمم النمسا وأميركا قد هداها العلم إلى طرائق شتى وأصول راسخة للاتحاد الوطني دون الديني, والوفاق الجنسي دون المذهبي, والارتباط السياسي دون الإداري, فما بالنا لا نفكر في أن نتبع إحدى تلك الطرائق أو شبهها؟".
الا ان الكواكبي ورغم نزوعه الى علمنة الدولة منذ ذلك الوقت, فقد كان يشدد على تميز الأمة العربية في إطار المحيط الإسلامي الكبير, فقد كان مصلحاً إسلامياً يعمل على تجديد فكر الدين الاسلامي.... الكواكبي كان ايضا قومياً عربيا سباقاً في اكتمال النظرة العربية القومية لديه.
وفاته:
توفي عبد الرحمن الكواكبي في القاهرة متأثرا بسم دس له ي فنجان قهوة من قبل احد عملاء العثمانيين مساء الخميس 14 حزيران – يونيو عام 1902 , فعم الحزن والذهول كل الأحرار المناضلين في مصر والعالم العربي....
شيعت جنازته في موكب مهيب, ودفن في مقبرة باب الوزير بسفح جبل المقطم في القاهرة على نفقة الخديوي عباس, وأقام له الشيخ علي يوسف صاحب جريدة "المؤيد" مأتماً استمر ثلاثة أيام.
رثاه كبار رجال الفكر والشعر والادب في سوريا ومصر ونـُقش على قبره بيتان لحافظ ابراهيم:
هنا رجل الدنيا هنا مهبط التقى***** هنا خير مظلوم هنا خير كاتـب
قفوا وأقرؤوا أم الكتاب وسلموا***** عليه فهذا القبر قبر الكواكبي
واليوم وفي حي العجوزة بالجيزة , يمكننا زيارة مسجد كبير يحمل اسم عبد الرحمن الكواكبي , تخليدا لذكرى هذا المثقف التنويري السوري العظيم.