عزاء الأغبياء

صوت ابتهاج وصوت فرح في اسرائيل: فالاميركيون والبريطانيون ايضا مسؤولون عن جرائم حرب، لا نحن فقط.
أثارت كشوف موقع “ويكيليكس” في الانترنت كالمتوقع حماسة جميع دعائيينا الصاخبين: صاحوا مبتهجين أين غولدستون وماذا كان غولدستون يقول. شعروا بالارتياح. اذا كان يحل للاميركيين فانه يحل لنا ايضا.
لا يحل للاميركيين ولا لنا ايضا. عندما يوقف شرطي سير سائقا بسبب سرعة مجنونة، لا تساعده دعواه ان “الآخرين يسوقون على هذا النحو ايضا”؛ عندما كشف ريتشارد غولدستون عن جرائم حرب في غزة لم تساعدنا دعاوى أن “الجميع يسلكون هذا السلوك”. ليس الجميع يسلكون على هذا النحو، وعندما يسلكون كذلك يستحقون العار والعقوبة.
على حسب منطق الدعائيين الاسرائيليين، وفريق منهم متنكرون بثياب الصحفيين، يجب على اسرائيل الآن أن ترفع عينيها بفخر الى العالم فهناك قتلوا أكثر. لا حاجة الى تحسين ظروف السجن في السجون في اسرائيل – ففي الصين الوضع أفظع؛ ولا حاجة الى تحسين مستوى خدمات الصحة – ففي اميركا 50 مليون مواطن بلا تأمين؛ ولا يجب تضييق الفرق بين الفقراء والأغنياء – ففي المكسيك هو أكبر؛ ويحل الاستمرار على الاغتيال بلا محاكمة فالبريطانيون يفعلون ذلك؛ ويحافَظ على حقوق الانسان عندنا أما الايرانيون فاسوأ؛ ولا فساد في اسرائيل – وانتبهوا لما يحدث في افريقيا؛ وتوجد عقوبة موت في الولايات المتحدة فهلم نتبنها هنا ايضا؛ ويحل حتى قتل صحفيين مضايِقين وانظروا الى الروس.
اجل، الحرب أمر وحشي، والعالم مليء بالجرائم والمظالم، لكن لا شيء منها يُبرئ اسرائيل حتى لو ابيضّت خطاياها قياسا بخطايا اميركا العظيمة. يجب الآن التنديد باميركا بشدة وألا ننسى لاسرائيل فعلها.
إن عمل كل وطني ورجل ضمير أن يثور على كل كشف صحفي كهذا، لا سيما تلك التي تتناول سلوك بلده.
عدد المدنيين الذين قتلوا في العراق كما كشف عن ذلك أكثر هولا بألف مرة من عدد القتلى في غزة. هل يعني هذا شيئا؟ حتى لو اشتد العالم في معاملتنا فان أيدينا لا تصبح أكثر نقاءً. يشتد العالم علينا لاسباب مختلفة، بعضها حق، وفي الوقت نفسه ايضا يسلك معنا على نحو مميِّز الى أحسن ويغض عينيه عن أمور اخرى. وعلى كل حال، يجب أن نحدد فقط ما نراه في المرآة اذا نظرنا اليها في استقامة.
يا دعائيينا المبتهجين غيروا التكتيك الآن، فلا تقولوا “أكثر الجيوش أخلاقية في العالم”، وهذا زعم يدرك كل انسان نزيه مبلغ سُخفه. قولوا من الآن: نحن سيئون مثل الباقين كلهم. هذا زعم لا يثبت، لا سيما لانه لا يُحكم على اسرائيل فقط على عملية لها كتلك أو اخرى، بل على احتلال عسكري امتد عشرات السنين، لا نرى نهايته. إن احتلالا طويلا كهذا لا مثيل له في العالم الجديد، وتستحق اسرائيل عارها عليه، ولا يهم ما تفعله اميركا في العراق وافغانستان.
برهن “ويكيليكس” على أن نهاية الحقيقة أن تكشف؛ فقد أصبح من الصعب في العصر الجديد إخفاء شيء. وبرهن غولدستون ايضا على هذا وإن يكن على نحو أقل دراماتية. بعد سنتين من “الرصاص المصبوب”، ما يزال حتى الجيش الاسرائيلي يعمل هنا وهناك في التحقيق وفي محاكمة ضباط وجنود فعلوا ما كُتب عنهم في تقرير غولدستون الذي أثار غضب اسرائيل كثيرا.
يجب على اسرائيل أن تشكر لغولدستون، وأن تشكر اميركا لجوليان أسنج. برهنت كشوفهم ايضا على عدم قدرة الحرب وجرائمها على البقاء. تخيلوا كم من الكراهية زرعت اميركا في العراق، مع عشرات الآلاف من عائلات الثكل فيها، وكم من الكراهية زرعت اسرائيل في غزة، مع آلاف عائلات الثكل والدمار فيها. وما مبلغ عدم قدرة جميع الاغتيالات والتعذيبات والتنكيلات والاعتقالات الباطلة على البقاء، في حين يبدو العراق وغزة كما يبدوان.
ما الذي نلوح به؟ بأكثر من 100 ألف قتيل في حرب عبثية فظيعة، هي نزوة حاكم ديمقراطي. صحيح، يجب ارسال جورج بوش الى لاهاي الآن. بيد أن ازمة الكثيرين هذه التي كشف النقاب عنها أسنج في ويكيليكس ليست حتى نصف عزاء لاسرائيل؛ انها عزاء الأغبياء، عزاؤهم وحدهم.
جدعون ليفي
HAARETZ