عسف سياسي

 

لم يكن مفاجئاً ألا تصل مسامع البعض المقاربات الجديدة في الكثير من وسائل الإعلام العالمية حول ما جرى ويجري في سورية، والتي عكستها بعض المواقف والتصريحات، فيما كان سمعهم مرهفاً لدرجة أنهم حفظوا تفاصيل المشاهد المركبة والروايات المفبركة.

قد يستطيع أولئك أن يستمروا في صمّ آذانهم حيث لا يرغبون السماع، ويصيخون السمع حين يريدون.. لكن هذا لن يعدل في المسار، بل على العكس تماماً كلما تجاهلوا تلك الحقائق، بدت الإشكاليات أبعد مما هو مصرح به.‏

المكابرة هنا ليست فقط أسلوب دبلوماسيات امتهنت إلى حد كبير المداورة والمبالغة في كل الخطوات التي أقدمت عليها، مبالغة في توصيف الواقع.. ومبالغة في رفض الحقائق، بل أيضاً في لعبة تعديل الأدوات والأوراق والوسائل وفي الاتجاهين ترتسم علامات الاستفهام الكبرى التي تراكم من صور التناقض في الانزياح الغربي.‏

حين كان الحديث عن المؤامرة منذ البداية هناك من سخّف الحديث، وهناك من ذهب أبعد من ذلك والبعض الآخر لم يتردد في نسفها، وحين تم طرح بعض الأجندات الخارجية المرتبطة بها كان أيضاً هناك من استنكرها واستبعدها.‏

واليوم المشهد ذاته يتكرر.. بين مقولة إعلام لم يقل إلا بعض الحقيقة، وإعلام قال ماهو بعيد عن الحقيقة، بين سياسة مارست مسؤوليتها، وسياسة بالغت في توظيف هذه المسؤولية لأغراضها ومطامعها.‏

قد لا تكون المقارنة هي الغاية، لكن أمام زخ اتهامي لم يتوقف لحظة واحدة، وهدير انتقادات وصل إلى حدود غير مسبوقة لابد من التساؤل:‏

هل كان كل ذلك يندرج في سياق الانخراط ذاك، أم المسألة توافق بالمصادفة أو هي انجراف بحسن نية؟!.‏

مبدئياً ليس الأمر كذلك، لكنه في حصيلته النهائية قد يجمع كل تلك الأشكال، لأن الهجوم المكثف والمتواتر سياسياً وإعلامياً.. والقصف الموازي له اتهاماً وانتقاداً صباح مساء يدفع إلى الربط.. ويجزم المقارنة لاعتبارات ليست خارج السياق، بل في جوهره.‏

لذلك لم نستغرب أن يواصل أولئك ومن اندرج معهم تجاهلهم.. وأن يصروا على المضي في سياسة التجييش وتقمص دور المانح للشرعية هنا، والنازع لها هناك.‏

ما فاتهم ليس أن الزمن الاستعماري قد ولى فقط.. وليس أن أطماعه تكشفت فحسب، بل أيضاً الشعوب تغيرت والعلاقات بين الدول تبدلت.. وقبول التزييف قد تعدل.‏

يستطيعون أن يبقوا كذلك.. ويستطيعون أيضاً أن يورطوا حكوماتهم أكثر في حساباتهم الخاطئة وأوهامهم، لكنهم سيعجزون عن فعل ذلك مع الشعوب ومع إعلامهم.. ومع الحقائق التي تصله تباعاً.‏

الصورة المجتزأة حيناً والمبتورة حيناً آخر، والمفبركة أغلب الأحيان لاتحمل مشروعيتها، ولاتملك إمكانية استمرارها وسط هذه المتغيرات.‏

والرواية المنقوصة.. والمحورة يمكن لها أن تسود بعض الوقت وأن يصدقها بعض الناس لكن من الصعب أن يصدقها الجميع، والأصعب أن تسود كل الوقت.‏

ليس من باب النصيحة، ولا من نافذة التذكير.. لكنها قد تكون في إطار التنويه إلى الذاكرة التي مافتئت تُتهم بلفظ مافي داخلها إلى حين أو بعض الوقت.. لعلها تسترجع مالفظته وتستعيد مافقدته سواء كان بإرادتها، أم كان دون ذلك، وسواء كانت النيات المبيتة، أم هي فقط الحسابات الخاطئة، والمؤذية للتاريخ، وللذاكرة، وللشعوب، وللعلاقات بين الدول.‏

هو تعريج على تخوم الذاكرة التائهة في عسف سياسي أضاع الهوامش، وترك الباب موارباً على تداخلات المصالح الشخصية المشوهة، التي مافتئت تصرُّ على إدارة الدفة خارج السياق.‏

 

 

علي قاسم - الثورة