عصر الاضمحلال الثالث

 

كنت في مكتبتي، أستمع لأغنية الجندول لعبد الوهاب، قلت لنفسي: حسك في الدنيا يا عبدالوهاب.. ليتك كنت معنا هذه الأيام! جاءني صوته من بعيد: لمن أغني.. فالشعب الذي كنت أغني له قد مات!

وقعت عيناى على مسرحيات وشوقيات أمير الشعراء.. تمنيت لو أنه تجسد وبُعث من جديد..! طلبت منه أن يحدثني عما كان وعما يراه الآن! قال: في مسرحية مصرع كليوباترا.. تقرأ لحابي مخاطباً ديون:

اسمع الشعب ديون، كيف يوحون إليه!

ملأ الجو هتافاً، بحياة قاتليه!

أثر البهتان فيه، وانطلى الزور عليه!

يا له من ببغاء، عقله فى أذنيه!

قلت هذا هو حالنا الآن يا أمير الشعراء، ماذا ترى فى مجلس الشعب الجديد؟ قال: فى أول مجلس نيابى منتخب ١٥/٣/١٩٢٤ قلت:

ناشدتكم تلك الدماء زكية، لا تبعثوا للبرلمان جهولا!

قلت: أصاب الإيدز جهاز مناعتنا ووحدتنا، فانهار أمام فيروسات الصهيونية العالمية والوهابية، فطفح على وجوهنا النقاب، وتخلفنا دينيا وثقافيا، وعلمياً وحضارياً.. وأصبحنا فى نفق أسود.. لا نعرف نهايته، وكل ذلك بسبب دولة لا سيادة للقانون فيها، وأصبحت علامة القسمة الشريرة، هى شعار مصرنا الحزينة، بدلا من علامة الجمع الطيبة! قال:

إلام الخلف بينكمو إلاما.. وهذى الضجة الكبرى علاما؟

وفيما يكيد بعضكم لبعض.. وتبدون العداوة والخصاما

شيدتم فى القطر بينكم نارا.. على أعدائه كانت سلاما

تباعدتم كأنكمو خلايا.. من السرطان لا تجد انضماما

وأين الفوز؟ لا مصر استقرت.. على حال ولا السودان داما

قلت: يزعجنى ويحزننى العنف فى كل نواحى الحياة المصرية.. تدمير.. حرائق.. قتل.. خطف.. آخرها أحداث العمرانية.. من عنف وعنف مضاد..! قال شوقى بك:

لو كان للدولة هيبة، وللقانون سيادة.. لما حدث ما حدث.. ولكنهم لا يعرفون:

إذا ملكت النفوس فابغ رضاها، فلها ثورة وفيها مضاء!

استطرد أمير الشعراء قائلاً: المسيحية لا تعرف العنف أو الكراهية.. حتى إن اللورد اللنبى حين ذهب لفتح القدس قلت له:

يا فاتح القدس خل السيف ناحية، ليس الصليب حديدا كان بل خشبا

فلو علمت إلى أين انتهت يده.. وكيف جاوز فى سلطانه الحقبا

عرفت أن وراء الضعف مقدرة.. وأن للحق لا للقوة الغلبا

قلت له: يا أمير القوافى.. المرأة فى مصر ترزح تحت نصيب الأسد (الرجل).. والمصيبة الكبرى زواج الصغيرات من شيوخ العرب، ولن تتقدم أمة إلا إذا أصبحت فيها المرأة على قدم المساواة مع الرجل، ولو قرأت تقرير مركز البحوث الاجتماعية والجنائية عن حال المرأة فى مصر لبكيت حزناً عليها..! قال:

ظلم الرجال نساءهم وتعسفوا، هل للنساء بمصر من أنصار؟ ما زُوجت تلك الفتاة وإنما.. بيع الحسن والصبا بالدينار!

قلت له: إنى حزين يا سيدى.. المصريون لا يعرفون تاريخ أجدادهم، ولا يحبون أن يعرفوه، ويعتقدون أن الفراعنة استخدموا السخرة، وكانوا عباد أوثان! قال:

كيف هذا؟! وقد:

مشت بمنارهم فى الأرض روما.. ومن أنوارهم قبست أثينا

تعالى الله كأن السحر فيهم.. أليسوا للحجارة منطقينا؟

وسر العبقرية حين يسرى.. فينتظم الصنائع والفنون

قلت: يا أمير القوافى، يا من جاءتك وفود الشعراء مبايعينا.. نحن اليوم نحتفل بعيد رأس السنة الهجرية.. أريد أن أسمع منك أبياتا من الهمزية النبوية.. قال:

يا أيها الأمى حسبك رتبة.. فى العلم أن دانت بك العلماء

أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى.. فالكل فى حق الحياة سواء

إذا عفوت فقادرا ومقدرا.. لا يستهين بعفوك الجهلاء

وإذا رحمت فأنت أم أو أب.. هذان فى الدنيا هما الرحماء

وإذا أخذت العهد أو أعطيته.. فجميع عهودك ذمة ووفاء

بُنيت على التوحيد وهو حقيقة.. نادى بها سقراط والقدماء

إيزيس ذات الملك حين توحدت.. أخذت قوام أمورها الأشياء.

قلت: يا أمير القوافى.. هل هذه هى مصر التى نعيشها الآن؟ قال:

بعد الأسرة السادسة وحتى العاشرة.. كان عصر الاضمحلال الأول، ومن بعده الأسرة ١٢ حتى السابعة عشرة.. كان الهكسوس.. وهو عصر الاضمحلال الثانى.. أما عصر الاضمحلال الثالث فهو هذا العصر الممتد من ٥٢٥ ق.م وحتى الآن، باستثناء ومضات كعصر محمد على، والنصف الأول من القرن العشرين، ولكن بقاء الحال من المحال:

تُتوى الملوك ومصر فى تغيرهم.. مصر والأحساء أحساء.

 

د. وسيم السيسي  - المصري اليوم