عُقدة المرأة عند العسكر

اختارت مجلة «تايم» العالمية شخصية «المُحتج» العربي لتكون شخصية عام ٢٠١١. ولم تُسم المجلة العتيدة هذا المُحتج تحديداً، لأنه كان يمكن أن يكون المصري خالد سعيد، الذى مات أثناء تعذيب رجال البوليس المصري له فى الإسكندرية، أو التونسي محمد بوعزيزي، الذى أحرق نفسه في مكان عام احتجاجاً على مُلاحقة أحد أفراد الشرطة التونسية له لدفع إتاوة يومية، وهو البائع المُتجول، الذي كان قد تخرّج في الجامعة، ولم يجد عملاً آخر في ظل نظام المُستبد الفاسد زين العابدين بن علي، وفجّرت الواقعة ثورة شعبية عارمة، لم تهدأ إلا باستقالة الرئيس التونسي من منصبه بعد ٢٣ عاماً.
وفي غضون ثلاثة أسابيع من تلك الثورة انفجرت الثورة المصرية، التي اقتلعت مُستبداً عربياً آخر هو حسني مُبارك، بعد حُكم استمر ثلاثين عاماً. ثم لحقت ثورات اخرى بكل من تونس ومصر. وقتل الثوار الليبيون مُستبدهم، مُعمر القذافي، الذي كان قد جثم على صدورهم اثنين وأربعين عاماً (١٩٦٩/٢٠١١)، ولكن بعد أن أغرق بلاده في بحر من دماء حرب أهلية، دامت عدة شهور، وراح ضحيتها ما يقرب من خمسين ألف ليبي. وهو المُسلسل الذي تكرر فى اليمن، قبل أن يرحل مُستبدها، على عبدالله صالح، الذي جثم على صدر شعبه ٣٣ عاماً.
لقد أبلت بنات وأبناء الشعوب العربية بلاء حسناً في الثورات العربية التي أبهرت العالم، فأطلق عليها مُجتمعة تعبير «الربيع العربي للديمقراطية».
ونتوقف هنا عند دور المرأة العربية تحديداً. فمنذ اليوم الأول لكل من هذه الثورات، كانت النساء العربيات جنباً إلى جنب مع الرجال. وسقط منهن شهيدات مثلما سقط من الرجال. ويُحاول الرجال، خاصة من التيار الإسلامي، أن يهضموا حق النساء، ويُعيدوهن إلى الاختباء وراء «الحجاب». وحين رفضت بعضهن، وتمردن، وجد غُلاة الإسلاميين لهم حُلفاء مُخلصين بين رجال المؤسسة العسكرية. فمن هذه المؤسسة رجال شُرفاء يفخر بهم شعب مصر كُله، ولكن منهم أيضاً من لا يزالون يحملون أفكاراً مُتخلفة، عموماً، وعن المرأة خصوصاً.
أما ثالثة الأثافي، فهي غسيل المُخ لبعض «الأخوات المُسلمات» على أيدى العقيدة التي تلقينها في صفوف «الجماعة». فقد أوردت صحيفة «المصري اليوم» (الجُمعة ٢٣/١٢/٢٠١١) تصريحات لبعض الأخوات يُبررن فيها تقاعسهن عن المُشاركة في مليونية «حرائر مصر» احتجاجاً على ما تعرضت له إحداهن من تمزيق ملابسها ومُحاولة كشف عوراتها، عقاباً لها على التظاهر احتجاجاً على «حُكم العسكر»، حيث جاء في تلك التصريحات أن تلك المرأة الضحية «ليست مِنا!» إذ كيف تكون منهن وهي ترتدى ملابس عصرية، وغطاء صدر داخلياً أزرق. فيا للتفاهة، وعار عليهن.
وخلال القرن التاسع عشر، استمرت معارك المرأة من أجل المُساواة الكاملة، ليس فقط في التعليم، ولكن أيضاً في بقية الحقوق الاجتماعية والسياسية. وقد أنصفها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، حيث أقرّ هذه الحقوق، وعيّن أول وزيرة في تاريخ مصر، وهي الدكتورة حكمت أبوزيد، وزيرة للشؤون الاجتماعية. واستمرت المسيرة في عهد الرئيسين السادات ومُبارك، فأصبح للمرأة حصة معلومة في مقاعد المجالس المُنتخبة - المحلية والبرلمانية.
ولكن هذه المسيرة المظفرة للمرأة المصرية أصابها الانتكاس بعد الطفرة النفطية.
لقد كانت تلك الطفرة من طيبات حرب أكتوبر ١٩٧٣، التي خاضتها مصر وسوريا، ضد الاحتلال الإسرائيلي، وأدت إلى مُضاعفة إيرادات البُلدان المُنتجة للنفط أربعة أمثال خلال عام واحد. وهو ما أدى بدوره إلى تنفيذ مشروعات تنموية طموحة، استدعت استقدام ملايين العُمال والخُبراء المصريين.
وخلال العقود الأربعة التالية توجّه ما لا يقل عن ثلاثين مليون مصري للعمل في السعودية وبُلدان الخليج الأخرى، وتعرض من ذهب منهم إلى السعودية لعمليات الدعوة والتلقين الوهابية، فعادوا بأفكار ومُمارسات مُتشددة، يُطلق عليها «سلفية»، وهو اللفظ الأكثر قبولاً في مصر من لفظ «الوهابية». فلهذه الأخيرة مع مصر تاريخ دموي طويل، يعود إلى عهد محمد على باشا، الذي أرسل أحد أبنائه، وهو طوسون، على رأس حملة لتأديب الحركة الوهابية، التي كانت قد تمردت على حُكم السُلطان العثماني.
ومنذ ذلك التاريخ، والحركة الوهابية، التوأم لأسرة آل سعود، تسعى للانتقام، ووجدت ضالتها المنشودة في تلك الملايين المصرية التي ذهبت إلى الجزيرة العربية وعادت مُحملة بالمُعتقدات والمُمارسات الوهابية المُتشددة، من إطلاق اللحى وإطالة الجلباب وتحجيب، ثم تنقيب النساء.
ولكن الأدهى من هذا وذاك هو ما أصاب المؤسسة العسكرية من ارتداد. لقد كانت تلك المؤسسة هي قاطرة «الحداثة» في مصر، منذ عهد محمد علي، الذي أرسل خيرة أبنائها لتلقي تعليمهم وتدريبهم في إيطاليا وفرنسا والنمسا، قبل قرنين.. وكان ضمن برامج الحداثة هذه مدارس للبنات وتشغيل النساء في المصانع التي استحدثها محمد علي.
ولكن ها هي نفس المؤسسة تقع فريسة للتخلف الصحراوي الوافد، وتعامل حرائر مصر مُعاملة الجواري والسبايا. فعار عليهم إلى يوم الدين.
وعلى الله قصد السبيل