على الجانب الخطأ من التاريخ

 

بعد عام على بدء "الربيع العربي"، يتضح أنه وصل إلى حد  ينفتح بعده واقع جديد تماما. من بلد إلى آخر كانت الأحداث تكتسب طابعا أكثر وضوحا للتأثير الخارجي، ففي تونس جرى كل شيء بسرعة كبيرة بحيث لم يتمكن أحد من التفاعل مع الحدث وتحديد موقف منه.

أما مصر فقد تركزت أنظار الجميع عليها، ولكن القوى الخارجية اكتفت بمحاولة صوغ موقف من الأحداث.

وفي اليمن حاول الجيران تسهيل عملية انتقال السلطة بسلاسة. أما ليبيا فقد شهدت تدخلا خارجيا سافرا. وسورية التي بدأت المواجهة فيها على شكل احتكاكات داخلية تحولت إلى ساحة متقدمة لمعركة إقليمية من أجل النفوذ، انخرط فيها اللاعبون الكبار جميعا.

إن خطوط الافتراق هنا عديدة جدا، فالملكيات العربية ضد إيران، والإسلاميون الديمقراطيون ضد الاستبداد العلماني، والسنة ضد الشيعية. 

غير أن المسألة لم تقتصر على النزاع الداخلي، لأن المواجهة السنية الشيعية موجودة في عدد من بلدان العالم العربي. ووراء الحلف الشيعي العابر فوق القومي، تقف إيران، فطهران بالذات هي التي جنت أكبر فائدة من الإطاحة بصدام حسين.

أما السعودية وقطر فقد وجدتا في "الربيع العربي" فرصة سانحة للتعويض عن الخلل الذي حل بالتوازن في المنطقة جراء الغزو الأمريكي للعراق. إن دعم المعارضة السورية، السنية بمعظمها، وسيلة لتحجيم إيران. وهذا ما يفسر التجييش الإعلامي الذي تحدد  قناة "الجزيرة" القطرية اتجاهه الرئيس. 

ما من أحد يسأل لماذا يقوم الجيش النظامي السوري منذ بضعة اسابيع بمحاولات اقتحام مدينة حمص مستخدما الأسلحة الثقيلة. ألا يكمن السبب وراء ذلك في أن من يواجههم قوى حسنة الإعداد؟ ومما يبعث على التساؤل أيضا أن الدول الغربية الكبرى تبدو حليفا مخلصا وثابتا للإسلاميين. ثمة انطباع بأن الغرب يراهن  على الإسلام السياسي  ورمى جانبا جميع شركائه وحلفائه السابقين.

ونشير بالمناسبة، إلى أن بشار الأسد لم يكن حتى وقت قريب يثير النفور في أوروبا، وبقي ضيفا محترما في فرنسا وانكلترا ، بينما لم يزر روسيا إلا بعد خمس سنوات من توليه منصبه. ولكن يبدو أن الولايات المتحدة وأوروبا لم تقوما بأي اختيار واع ، بل خشيتا أن تجدا نفسيهما "في الجانب الخطأ من التاريخ"، فسارعتا لتأييد "إرادة الشعوب"، بالسير عمليا على خطى الرياض والدوحة.

وماذا بالنسبة لروسيا ؟ لا جدال في أن الرغبة بالمحافظة على العقود المربحة، وإرث الصداقة منذ العهد السوفيتي ، لعبا دورا في وقوف روسيا إلى هذا الجانب من خط المواجهة. غير أن ذلك كله لا يتصف اليوم بالأهمية، لأن من الجلي أن موسكو تمسكت بمبدأ عدم جواز استخدام مجلس الأمن الدولي لتبرير التدخل تعسفيا في حرب أهلية لصالح أحد الطرفين. وكانت النتيجة أن العالم العربي كله تقريبا، والدبلوماسية الغربية  أيضا، دخلا في خلاف مع موسكو ، ولكن الأخيرة لا تقبل التراجع عن موقفها. يعتقد معظم المعلقين أن روسيا بذلك تدمر آخر مواقعها في العالم العربي، دون التفكير بالمستقبل.

أما ما يخص التأثير على منطقة الشرق الأوسط،  فامكانيات روسيا في هذا المجال تبدو ضبابية حقا، فقد نفد الاحتياطي السوفيتي، ومن المشكوك فيه أن تكون روسيا جاهزة لتلعب دورا على مستوى الكرة الأرضية. وفي ما عدا ذلك لا تبدو السياسة الروسية مجردة كثيراً من العقلانية، فموسكو  أفهمت الجميع استحالة أية اجراءات شرعية دون مشاركتها ، وما يتخذ من وراء ظهرها سيكون تعسفيا على غرار غزو العراق  عام 2003 ، الذي اعتبر خطأً كبيراً باعتراف الجميع.  

وتجدر الإشارة إلى أن موقف الغرب في الآونة الأخيرة ، وخلافا لموقف العرب، يتغير بعض الشيء. لقد بدأ الغرب يعي أكثر النتائج التي ستترتب على إطاحة نظام الأسد. إن تركيبة ونوايا المعارضة السورية غير واضحة، والتأثير الخارجي عليها من جانب الدول العربية الملكية السنية باد للعيان. أما مصير الأقليات العلوية، والمسيحية، والكردية  فتبدو مأساوية للغاية في حال التغيير. وثمة مخاوف حقيقية من انجرارها إلى اقتتال داخلي مرير.

كما لا تجب المبالغة في امكانية تأثير موسكو على الرئيس الأسد، وحتى ممثلو الدول العربية التي تتخذ موقفا سلبيا من روسيا، يعترفون بأن الامكانات لحل المشاكل تقلصت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، واختلال توازن النفوذ في الشرق الأوسط. ولو كانت روسيا تستطيع بالفعل لعب دور موازن في المنطقة، لكان ذلك مطلوباً بشدة في هذه المرحلة.