"على وجع الورد....."- الجزء الثالث

"على وجع الورد....."- الجزء الثالث

شام إف إم - خاص 

صباح الخير..
لقارئات وقراء هذه المقاطع من نص روايتي التي لم تُنجز
 أستعيدها معكم بمناسبة حملة "الشهر الوردي"
مع عميق شكري لكل من يشجعني على الاستمرار في الكتابة...

الحلقة الثالثة....

"هل تشعرين بالجوع ؟ سألتني سيسيل.

سيسيل، أم صديقي السابق ريتشارد، نموذج حي ومثال معبّر عن كلمة "أم"، بل لمفهوم الأمومة في أقصى درجات الإنسانية... وقد ظلّت تعتبرني بمثابة ابنتها بالرغم من انفصالي عن ابنها، منذ فترة طويلة.  لكم تذكّرني ملامحها ولهفتها بالعمة شهيرة، عمة والدتي، وكأن سيسيل هي نسخة بالألوان من شهيرة التي بقيت في ذاكرتي صورة بالأسود والأبيض... والرمادي!! منذ أن وعيت على الدنيا وأنا أذكر أن شعرها رمادي، لون ثيابها أسود ورمادي، ووشاحها.. غطاء رأسها إما أسود وإما رمادي!!
العمة شهيرة ،الشقيقة الوحيدة لجدّي، أقامت طويلاً ، حتى وفاتها في منزل أخيها... استقرت مع زوجها الفلسطيني في إحدى الغرف المطلة على شجرة النارنج، بأرض الديار، في البيت الدمشقي العتيق، بعد نزوحهما من طولكرم، إبان نكبة 48... العمة شهيرة ـ أسكنها الله فسيح جنّاته ـ لم تنجب... كنا جميعا أولادها، وكان سيل حنانها الجارف يغمرنا ويفيض .
 والعمة شهيرة كانت رائدة في المجال الذي أتميّز فيه اليوم... قبل قرابة خمسين عاماً، أكثر بقليل، أصيبت بسرطان الثدي، وفي أحد مشافي اليهود بفلسطين.. تم استئصال ثديها الأيمن بأكمله!!!
العمة شهيرة.. يرافقني حنانهااليوم، بالألوان، متمثلاً بحنو سيسيل وحضورها الملائكي، اليوم وأنا أعيش لحظات قاسية من عمري الذي أمقته...
هل تشعرين بالجوع؟ عادت سيسيل وكررت سؤالها.. لم أجب، ودخلت في غيبوبة ثانية، هرباً من وقع الصدمة ربما، وبتأثير حبتيْ المسكّن دون شك...

-----------------------

صحوت من غفوتي الثانية التي استسلمت لها بتأثير المسكّن وبقايا المخدّر. الألم أعادني إلى الواقع... "الأليم" بكل معنى الكلمة.. لم أجد صعوبة هذه المرة في إدراك حقيقة الموقف الراهن.. أنا هنا في المشفى، وخز ألم في نصفي الأيمن، وخضعت لجراحة لم أكن أتوقع حجم خطورتها، في عقلي الواعي، على الأقل، ففي عقلي الباطن، أظن أنني كنت مدركة بشكل من الأشكال، طبيعة ما أنا مقبلة عليه، بدليل أنني، لدى خروجي من عيادة الجراح، قبل أسبوع، وبعد أن عبرت الحارة الضيقة إلى الشارع العام، انتابتني، فجأة، حالة شبه هيستيرية، ورحت أبكي بصوت عالٍ، على مرأى من المارة ومسمع منهم. توقف أحدهم وسأل: هل استطيع مساعدتك، مدموازيل؟ ابتسمت لكلمة "مدموازيل"، وأنا ابنة الخمسين خريفاً.. لا، أشكرك!!!
ثم جلستُ فوق كتلة حجرية مكعّبة في طرف الرصيف.. لحظات مرّت قبل أن أستعيد هدوئي. أخرجت المرآة وقلم أحمر الشفاه من حقيبة يدي، ولوّنت شفتيْ ، وعدت أبتسم لصورتي المنعكسة أمام طيفي المستطيل الصغير. صحيح أن البكاء يترك آثار انتفاخ واضحة على عينيْ، لكنه في الوقت ذاته يضفي رونق ألوان غير مألوف على شحوبي الدائم. لبضع لحظات، خُيّل إليْ أني أرى في وجهي مسحة من جمال، لكن سرعان ما استرد شحوبي موقعه واحتل مكان الصدارة، وعادت إليْ قناعتي المألوفة بأنني محظوظة لعدم تمتّعي بجمال باهر أو قبح ظاهر،لأن كلاهما قيد، وأنا مدينة لغلافي الجسدي العادي جداً بما وصلت إليه من حرية وتحرر، يخيّل إليْ أني أتحرك وسط الناس ولا أحد منهم يراني، في الصغر كنت نحيلة حد الهزال، وفي الكبر ، أفرطت في السمنة، وكأنني أسعى بكل الوسائل أن أُترك وشأني... كان قد حكم على ابنة الأحد عشر ربيعاً بأنها ـ يا حرام ـ لن تجد من يتقدم لخطبتها بسبب شحوبها وهزالها!! لا بأس .. لم تكن فكرة الموت قد راودتني بعد.. أنا في هذا الوجود، إذاً أنا موجود.. ولا أصر على إضافة التاء المربوطة للتأكيد على أنوثتي، فأنا أعتبر أنني أصلاً كيان لا جنس له، ولِد في جسد مؤنث، وها هو يعاني للمرة الثانية من الجروح في عمق الأنوثة التي اختارها، أو اختارته من يدري؟...كانت هنالك جراحة في الثدي الأيسر قبل ربع قرن بالتمام والكمال، ما تم استئصاله حينها لم يكن خطيراً، لكن هذه المرة لم تسلم الجرّة... "طب الجرة عاتمّها، بتطلع البنت لإمها". المثل الفخور بسجعه لم يطابق الواقع .."ما كل مرة بتسلم الجرة"، لم أطلع لأمي، لم أرث جمالها، لكني على يقين بأني ورثت عنها الكثير من الجينات "المعنوية" إن صح التعبير: العناد، التمرد الصامت، الإصرار والمثابرة على تحقيق فكرة مهما طال الأمد وأيا كانت المعوقات، رفض الخضوع للسلطة الذكورية تحت قناع من الهدوء المطمئن... 

يتبع....