على وجع الورد.. الجزء الحادي عشر

على وجع الورد.. الجزء الحادي عشر

شام إف إم - خاص

الحلقة الحادية عشرة

 قالت المرأة المعذبة بسرطانينا: لن أطيل عليك، لقد تحولت الطبيبة إلى صديقة، ولم تكن متحمسة لحل استئصال الرحم، وقامت بواجبها هذه المرة كصديقة أولا وكطبيبة بالدرجة الثانية.. اقترحت عليّ بأن نعطي أنفسنا فرصة تجربة علاج إضافي وجديد لمدة ثلاثة شهور على أن نقرر فيما بعد على ضوء ما يستجد من نتائج، وأعربت عن تفاؤلها بأن النزف الدوري سيتوقف، وربما لن نضطر للاستئصال، والأهم أن لا أخبر الجراح بأمر العلاج الإضافي، خلال زياراتي الروتينية لعيادته.
وهكذا كان وأثمر هذا العلاج الإضافي عن انقطاع نهائي للدورة الشهرية بكل ما يرافق الأمر من تقلبات مزاجية وهبات حرارية وآلام عظمية ووهن.. "
ثم استوت في جلستها، وقالت بشيء من الاعتزاز الساخر: كما تراني الآن، بطلة التحدي.. قاهرة السرطان، لن يقوى على الاحتكاك بي بعد الآن.. بالمناسبة... أيها الكاتب المبدع.. ألم تكتب شيئاً عن معاناتك أنت مع الداء؟
 قلت: لقد كتبت الكثير، وفكرت بنشر كتاباتي كرواية، لكني الآن وبعد أن قرأت كلماتك، وجدت أن صفحاتي تبدو أقرب إلى التقرير الطبي منها إلى نص يمكن أن يشكل رواية أدبية، أظن أني سأعيد النظر في النص.. 
وهل تسعدني بأن أطلع عليه قبل نشره؟ قلت بالتأكيد... وحملت إليها الأوراق عند وداعها بالمطار قبيل سفرها في رحلة العودة إلى ديارها..
بعد ذلك وصلتني منها رسالة تقول فيها:
 "في الطائرة، وفي طريق عودتي إلى مهجري المتعِب المتعَب، بدأت أقلّب صفحات مخطوط روايتك عن المرض الخبيث، وكنت وصلت إلى الصفحة الأخيرة عندما أعادني إلى الواقع صوت الكابتن وهو يُعلم الركاب، باللغتين العربية والإنكليزية، أننا نحلّق في سماء النمسا، وأن بإمكاننا أن نتأمل من الكوّة ـ إذا كنا نجلس بجوارها ـ نهر الدانوب الشهير بزرقته، والذي ألهم الموسيقار شتراوس بتأليف أشهر فالسات الرومانس في الموسيقى الغربية.
لم تكن الإطلالة ممكنة بالنسبة لي على النهر الأرستقراطي ذي التعرجات المغناج والتموجات الراقصة، فقد كانت تجلس بيني وبين النافذة سيدة أجنبية شابة، ما توقفت عن استراق النظر إليّ تارة، وإلى الأوراق أمامي، تارة أخرى. تلاشى صوت الكابتن وشعرت بحركة بعض الركاب للانحناء ومشاهدة المناظر النمساوية الآسرة التي تبدو كلوحة نادرة من هذا العلو الشاهق، وتعيد إلى الذاكرة نغمات ليالي الأنس الأسمهانية في فيينا!!!عيون الركاب كانت مملؤة بالدهشة فيما كانت عيناي مغرورقتين بدموع مالحة انهمرت قطرات فوق صفحات المخطوط... سرعان ما امتصها الورق واختلط الحبر بملوحة الماء فبدت الكلمات وكأنها أشكال ورموز مرسومة بحبر "الكوبيا" البنفسجي وسط بقع صفراء تذكّر بزهرات "البانسيه" المفرطة في الرقة والهشاشة...
استجمعت المرأة بجانبي جرأتها وسألتني بلغتها الأجنبية وهي تحاول الإبتسام:"أهو مؤثر إلى هذا الحد ما تقرئين؟" قلت بلغتها ما معناه: "إنها كلمات من معدن العذاب الخالص!!". تابعتْ وكأنها لم تستوعب إجابتي: "الخط جميل! أنتِ كتبتِ كل هذا؟"، قلت:"إنه مشروع رواية عن إنسان صارع مرض السرطان وتغلب عليه بجبروت نادر... هل قرأتِ رواية "الشيخ والبحر" لهمنغواي؟، قالت: "قرأتها وأنا مراهقة..."، قاطعتها:" وأنا كذلك.. وكنت حينها أتساءل هل أن غريزة البقاء لدى الكائن البشري قوية إلى هذا الحد بحيث تجعل صراعه العنيف مع القوى المضادة يتسم بمثل هذه الضراوة، على طريقة "يا قاتل يا مقتول"؟ لقد تبين لي من هذا المخطوط الذي أعرف كاتبه شخصياً بأن الأمر ليس مجرّد كلام روايات، بل حقيقة وجودية وواقع فعلي".
مرّت المضيفة وعرضت علينا بعض المرطّبات، وعاد الصمت يسود بيني وبين جارتي.

يتبع...