عندما ذهب الأطفال السوريون إلى المدارس للمرة الأولى!!

تيسير أحمد- شام نيوز
متى ذهب السوريون إلى المدارس؟؟ سؤال يبدو في ظاهره بسيطاً ولكنه يخفي بين طياته قصة بلد تحول من مركز حضاري أشع بنوره إلى مختلف اصقاع العالم القديم، إلى محافظة هامشية بعيدة عن المركز طوال العصر العثماني المديد، كان حظها من التعليم والتطوير يسيراً جداً بالنسبة لعمق تاريخها وموقعها الحضاري المتوسط بين حضارات العالم.
كانت المدارس السورية عبارة عن مدارس تخصصية طوال العهدين الأيوبي والمملوكي، فهناك مدراس للقرآن وأخرى للحديث، وثالثة للغة العربية ورابعة للطب، وكان النظام الدراسي في بعض هذه المدارس وخصوصاً المدرسة العمرية في جبل الصالحية، والتي أنشئت في العصر الأيوبي الزاهر، يضارع الأنظمة الداخلية لأعظم كليات العصر الحديث.
غير أن التراجع أصاب الحياة العلمية في دمشق أواخر العصر المملوكي وحتى أواخر العصر العثماني، وتحول التعليم إلى الكتاتيب البدائية التي تعلم قراءة القرآن فقط والحساب، ولذلك بقيت الحياة العلمية في سورية تعاني من التراجع طوال تلك القرون المظلمة، إلى أن أطل القرن التاسع عشر حاملاً معه تغييرات كبرى، كان من أبرزها المدارس الحديثة التي تعتمد طرائق التعليم الغربية التي أنشأتها الرهبنات المسيحية في دمشق وحلب وبعض المدن السورية الأخرى كبيروت والقدس.
ثم وبعد انتصار جيش محمد على باشا والي مصر بقيادة ابنه إبراهيم باشا بين سنتي 1830-1835 على جيوش الدولة العثمانية، وبعد أن تبين للباب العالي في الآستانة أن العلم على الطريقة الحديثة سبب تقدم ونجاح الجيش المصري .. أرادت أن تدخل التعليم الحديث إلى مدارسها .. فأحدثت في دمشق عدة مدارس سلطانية وعسكرية.
طلاب مكتب عنبر في بدايات افتتاحة مدرسة سلطانية عام 1886
ويمكن اعتبار مكتب عنبر هو أول مدرسة مدنية سورية أنشئت على الطراز الحديث، لأن كلمة مكتب تعني مدرسة في المصطلحات العثمانية.
فإذا وقفت أمام الباب الخارجي لمبنى مكتب عنبر، تشاهد لوحة كتب عليها: (مكتب إعدادية ملكية) ويعلوها شعار الطغراء السلطانية للتفريق بينها وبين المدارس العسكرية· فالسلطانية خاصة بالمدنيين، والثانية تؤهل طلابها للالتحاق بمدارس الجيش العسكرية، كالمدرسة الابتدائية الرشدية العسكرية التي كان مقرها في جامع يلبغا في البحصة· وكمدرسة (إعدادي عسكري) وكان مقرها جامع تنكز، والذي أصبح فيما بعد مقرا للمدرسة الحربية في العهد الفيصلي، ثم مقرا للمدرسة العسكرية في أول عهد الانتداب قبل أن ينقل إلى حمص·
ويشير الأستاذ مطيع المرابط إلى أنه لم يطلق على هذا المعهد رسميا اسم (مكتب عنبر) اطلاقا· لقد غلبت هذه التسمية العرفية الشعبية على الأسماء الرسمية التركية لصيغتها العربية السهلة·
ويقول المؤرخ محمد كرد علي في (خطط الشام) ما خلاصته: مكتب عنبر من أهم مدارس الحكومة· ويقوم في دار خاصة تقع شرقي المدينة، فوقعت في ملك الحكومة العثمانية لدين كان لها على صاحبها، وجعلت منها مدرسة إعدادية عام 1886 - 1887ميلادية.
ويقول المؤرخ الدمشقي نعمان قساطلي في كتابه (الروضة الغناء في دمشق الفيحاء) المطبوع عام 1879م: ودار (يوسف افندي عنبر) موقعها في حي النكنة وكان الشروع في بنائها عام 1867م، واشتغل العملة بضع سنين، لم يكمل بناؤها بعد (وهذا دليل على أن المؤرخ كان معاصراً لبناء الدار) لأن أحوال بانيها قد تأخرت، وكانت نفقة الدار (43) ألف ليرة·
وإذا كان لهذه المدرسة السلطانية الصبغة العثمانية فقد أحدثت مدرسة ذات صبغة عربية هي المدرسة السلطانية الثانية وكان مقرها في (ستي زيتونة)·
تلاميذ سوريون في باحة المدرسة عام 1940
ويقول المرحوم فخري البارودي في مذكراته ما خلاصته: "كان مكتب عنبر المدرسة الإعدادية الوحيدة في دمشق يومئذ، يتراوح عدد طلابها بين الخمسمئة والستمئة، وكان الطلاب النهاريون يتعلمون مجاناً، والداخليون يدفعون أجرة مقابل النوم والطعام· وكانت تدرس فيه العلوم الآتية: القرآن الكريم والعلوم الدينية، الفقه، اللغةالعربية، وترجمة اللغة التركية، اللغة الفارسية، علم الثروة (الاقتصاد)، وعلم الفلك والجغرافية العامة، وجغرافية الولايات العثمانية، تاريخ الدولة العثمانية، الحساب والجبر، الزراعة، الرسم، حسن الخط، الكيمياء والفيزياء والميكانيك، أصول مسك الدفتر، طبقات الأرض، النباتات والحيوانات"·
طالبات في مدرسة مكتب عنبر عام 1940
ثم يقول البارودي وهكذا كانوا يدوخون رؤوس الطلبة بهذه العلوم وكان مدير المدرسة وأكثر معلميها من الأتراك، حتى معلم العربية كان من الأتراك، وممن تخرج من هذه المدرسة المغفور لهم: شكري القوتلي وسعيد الغزي وسعيد حيدر وفوزي الغزي ومظهر رسلان ووصفي رسلان والدكتور صلاح قنباز وأسعد خورشيد وفؤاد الساطي وحسن فرحات ونسيب البكري·
وفي العهد الفيصلي أطلق على هذه على مكتب عنبر اسم (مدرسة التجهيز ودار المعلمين) بدلا من سلطاني مكتبي·
تلاميذ سوريون في المدرسة السورية في نيويورك عام 1914
ومع احتلال سوريا من قبل قوات غورو كان طلاب مكتب عنبر في العطلة الصيفية وعندما عادوا إلى المدراس لم يعقدوا أي هدنة مع السلطة الفرنسية.
وكان أول مدير عربي لمكتب عنبر بعد الحرب العالمية الأولى هو الضابط المتقاعد شريف رمو ثم تلاه مصطفى تمر فجودت الهاشمي فمحمد علي الجزائري فعبد الحميد الحراكي فشكري الشربجي فجودت الهاشمي ثانية·