"فرق تسد".. هذه المرة في إيران !

 

 

للمرة الثانية في غضون السنوات الثلاث الأخيرة ينشر القادة الإيرانيون غسيلهم خارج المنزل، مظهرين للعالم كله خلافاتهم وتصدع صفوفهم.  في المرة الأولى عام 2009 بدا ذلك كنزاع وفق الخط التقليدي للشرق، اي بين "إصلاحيين ومحافظين". أما الآن فتدور رحى صراع بين قوتين داخل معسكر المحافظين. يرى بعض المحللين أن الرئيس محمود أحمدي نجاد قد يكون ضحية هذا النزاع، أما في المستقبل فإن عواقب الخلافات قد تهدد مشروع الجمهورية الإسلامية نفسه.

ولهذا السبب بالذات تبدي الولايات المتحدة الأمريكية اهتماما شديدا بالنزاع الدائر بين النخب الإيرانية. وطالما أن سياسة الاستفزازات وارغام إيران لكي تكون البادئة بشن الحرب لم تجد نفعا، فقد قررت إدارة الرئيس باراك أوباما تعميق وتوسيع عملية تفتيت البلاد من داخلها. ولجأت الإدارة الأمريكية خاصة إلى فرض عقوبات انتقائية تلحق الأذى بمصالح مجموعات معينة من الإيرانيين.

وفي الوقت نفسه تبدي واشنطن استعدادها لتخفيف حدة خطابها الانتقادي تجاه طهران، نظرا لإدراكها أن خطر الحرب يشكل عاملا هاما من عوامل تراص النخبة الإيرانية. ولهذا السبب بالذات فإن الرئيس الأمريكي أوباما، واثناء زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأخيرة نتنياهو إلى الولايات المتحدة، لم يقتصر على رفض  فكرة قصف إيران، بل طالب ضيفه بالكف عن تهديد إيران عسكريا بهذه الحجة أو تلك.

كان يعتقد سابقا أن الوحدة الصوانية للنخبة الإيرانية هي سبب فشل الأمريكيين الأساسي، وكان يبدو أن نظام سلطة الدولة الذي أرساه اية الله روح الله الخميني يؤدي وظائفه دون أية إشكالات. وفي صلب هذا النظام كان ثمة توازن بين مختلف الكتل والمجموعات ( العسكريون، آيات الله ، المحافظون ، والإصلاحيون) ، وكذلك حضور لمرجعية عليا تتحكم بكافة التناقضات. إن الرئيس الإيراني ، واقعيا، ليس الشخصية الأولى في البلاد، بل المدير لها الذي ينفذ سياسة مرشد الثورة ، إذ أن كافة التعيينات في الوزارات المفصلية لا تتم إلا بعد موافقة المرشد. 

ومع ذلك ، نجد أن التماسك الصواني للنظام، ما هو في الواقع إلا رد على السياسة الأمريكية الصارمة للغاية. إن النخبة تتوحد حول المرشد الأعلى، لكي لا تسمح بأي تدخل عسكري ضد البلاد،  فالهجوم العراقي عام 1980 ترك في ذاكرة المواطنيين الإيرانيين أثراً لا يمحى. بدأت العثرات تظهر في بنية النظام بعد وفاة مؤسس الجمهورية الإسلامية. وقد وجه المؤسس أول ضربة للنظام، عندما عين علي خامنئي خلفاً له، علما بأنه لايتمتع باحترام كبير في صفوف القيادة الروحية.

 تحجيم الرئيس

يراقب العالم اليوم نزاعاً متصاعداً في إيران بين المرشد الأعلى، والرئيس محمود أحمدي نجاد. ورغم أن الأخير كان يعتبر حتى وقت قريب من أتباع خامنئي ومريديه الخلص، لم يعد يرضى أن يقتصر دوره على مجرد إداري بسيط  لشؤون البلاد. ويريد الرئيس وحاشيته أن يكونوا حكاماً حقيقيين للجمهورية الإسلامية. أما طموحات الرئيس فقد تقوض بشكل نهائي نظام إدارة الدولة في البلاد.

وقد حاول المرشد الأعلى حتى الآونة الأخيرة  ألا يتخذ  خطوات حادة ضد الرئيس،  فلم يلغ سوى القرارات الرئاسية الأكثر استفزازاً، وحاول بالكلام الحد من عنجهية الرئيس. ولكن صبر آية الله خامنئي نفذ في عام 2011، فهدد بإلغاء منصب الرئاسة. وقال حينها: "ان النظام السياسي الحالي للجمهورية هو نظام رئاسي، حيث ينتخب الرئيس مباشرة من الشعب. ولكن اذا وصلنا إلى نتيجة مفادها، أن النظام البرلماني مناسب أكثر لتشكيل السلطة التنفيذية، فلن تكون هناك مشكلة في تغيير النظام السياسي الحالي".

وتشكلت بالنتيجة جبهة واسعة من المحافظين ضد أحمدي نجاد. وهؤلاء  ملتفون حول خامنئي  من أجل إيقاف الرئيس عند حده. وهم الذين قاموا بتدبير اعتقالات بالجملة لأنصاره. وقد وصلت تلك الحملة حدا اضطر الرئيس أحمدي نجاد إلى الدفاع عن فريقه بشكل علني، فقال: "إن مجلس الوزراء في الخط الأمامي ، واذا تم المساس به، فسيكون من واجبي الدفاع عنه". وجاءت الانتخابات البرلمانية الأخيرة في البلاد  تتويجاً لتلك الحملة على الرئيس الإيراني، فقد فازت القوى المحافظة بتلك الانتخابات، وهي القوى التي وحدها العداء لمحمود أحمدي نجاد. وأكثر المواقف اهانة للرئيس كان خسارة أخته في الانتخابات، علما بأنها ترشحت في مسقط رأسهما مدينة غارمسار.  

ضربة لمداخيل الناس

من المشكوك فيه أن يعترف أحمدي نجاد بهزيمته. ويتوقع المحللون تفاقما جديا للصراع بين الرئيس والبرلمان قد يستمر حتى الانتخابات الرئاسية في العام 2013.  إن الرئيس الأمريكي أوباما لا ينوي اتخاذ أية خطوات عدوانية ضد إيران من شأنها وقف هذا الصراع، وإرغام النخبة الإيرانية على التلاحم. وعلى العكس من ذلك ، وكما تدل كافة المؤشرات ، فإن الإدارة الأمريكية لن تراهن على تعميق الخلافات الحالية داخل النخبة فقط، بل وعلى ظهور خلافات جديدة. ويلاحظ المسؤولون في واشنطن أن عدم الاستقرار الداخلي قد يمارس تأثيرا مباشرا على الوضع المتعلق بالبرنامج النووي الإيراني. وثمة من يعتقد أن  اضطرابات العام 2009 هي التي أرغمت أحمدي نجاد على الموافقة خريف ذاك العام على معالجة الوقود النووي الإيراني في الخارج.

كما أن العقوبات قد تغدو وسيلة عامة لتشجيع التصدع في إيران، فهي لن تساعد على استعادة قوة معسكر الإصلاحيين فقط ، بل وسوف تستثير نزاعا بين الرئيس ومجموعة كاملة من قادة الحرس الثوري الإيراني وآيات الله المرتبطين بعلاقات تجارية خارجية. ويرى البيت الأبيض أن الإصلاحيين قد يستغلون استياء السكان المتنامي لتحميل سياسة أحمدي نجاد النفطية الصارمة مسؤولية كافة المشاكل، وإخراج الناس إلى الشوارع من جديد.

إن تنفيذ خطط الإدارة الأمريكية يجري بصعوبة بالغة حتى الآن، فبغض النظر عن الخلافات الداخلية فإن النخب الإيرانية لم تنزلق نحو نزاع سافر، وإلا  لتعرض أحمدي نجاد لإجراءات حجب الثقة في العام الماضي. إن الإيرانيين،  المحافظين منهم ، والعسكريين وحتى الليبراليين، يدركون جيدا أن الصراع الداخلي السافر الذي سينتقل حتما إلى  شوارع المدن الإيرانية ، قد يقضي على مشروع الدولة الإسلامية نفسه. وإذا انقسمت النخب الإيرانية فسوف يتبع ذلك إطلاق آلية لمفاقمة التناقضات الإثنية، الأمر الذي سيسفر ، في الغالب ، عن تفتيت إيران إلى كيانات قومية عديدة.