في بيتنا وحش

 
 
لعلَّكِ مازلت تذكرين رواية إحسان عبد القدوس «في بيتنا رجل»، ولعلَّك مازلت تذكرين الفيلم الذي جسّدها وحمل عنوانها؛ أحلى فيلم أبيض وأسود يا حبيبتي.
 
على وزن هذا العنوان، صغت عنوان هذه الزاوية، كما ترين. وما قصدت إلا أن أقول: في حلب وحش، فحلب هي بيتنا، وحلب هي قصدنا، وأنتِ السبيل. أليس هذا بالضبط ما قاله أبو الطيب؟
 
أنت تعلمين أنني مازلت أرى في منامي بيتنا الحلبي، ولو مرة من العيد إلى العيد -هل بقي في حياتنا عيد؟- وفي كلّ مرة أشيده لك من جديد: هذا الصالون لنا ولهم ولهن، ومثله غرفة النوم، والغرفة الحائرة بين أن تكون للنوم أو للصالون، والغرفة الصغيرة التي سأملؤها بالكتب، كما سأملأ الشرفات الثلاث ببريق العيون وصخب الشارع وأذان الجامع، ثم أدع لك ما تبقّى من البيت كي أتقرّى أنفاسهم وأنفاسهن حرّى، يتقاطرون من أنحاء حلب ومن الرقة، من الشام ومن اللاذقية: سهر، وحوار، وشجار، وغناء، وقراءات، وكتابات، وعشق، وخصومة، وصداقة، و... ومدينة مقدَّسة.
 
حلب المقدسة، التي سرعان ما باغتها الوحش في صبانا مثلما باغتها صباح هذه الجمعة، سوى أنه اختار هذه المرة أن يفجّر، بينما اختار تلك المرة أن يغتال.


دعيني أطوي من السنين ما لا ينطوي، كي تحملنا أقدامنا من رصيف الجامع إلى ميسلون، ثم دعي الطريق تصعد بنا على مهل، حتى يزلزل الوحش زلزاله، فيقذفنا الانفجار صباح الجمعة في لجّة البيت، وننحشر بين من انحشروا وانحشرن طوال تلك السبعينات الموارة من القرن الماضي: رياض الصالح الحسين، وبشير البكر، وفواز الساجر، ومحمد قجة، وحامد بردخان، وسعيد رجو، وفؤاد المرعي، ونزيه أبو عفش، وسلطان محيسن، وسمير ذكرى، وفطمة، وسمر، وآمنة، ورحاب، وعفاف، و...
والدم يشخب، والجرح يفغر، وشلو على الشرفة المقابلة للجامع يقطر الدم، وشلو يتطوَّح في الفضاء حتى يزلزل الوحش زلزاله، فيقذفنا انفجار سابق أو لاحق صباح الجمعة نفسها بعيداً بعيداً، حيث أقام وليد إخلاصي في غفلة منك ومني، فما ينفع الرعب أو البكاء أو الصراخ أو الصمت أو الدعاء؟
ماذا بوسعك أو بوسعي أن نفعل، إلا أن نطير إلى هاتف يجيء بصوت وليد إخلاصي وصوت عمر حجو وصوت محمد قجة وصوت زبيدة القاضي وصوت نذير جعفر وأصوات من لم تجب هواتفهم: أين نهاد سيريس، وشهلا العجيلي، وفيصل خرتش، ونيروز مالك، ومحمد فؤاد، و... الحمد لله على السلامة.
لماذا لا تدعينني أنادي أولاً من فارقتهم منذ دهر، جرّاء هذا الذي يسمونه الموت: كامل ناصيف، وجورج سالم، ورشيد بساطة، وخليل هنداوي، ولؤي كيالي، وفاضل ضيا، وعبد الله يوركي حلاق، ونبيه قطاية، وحامد بدرخان، ورياض الصالح الحسين، وفواز الساحر، وعبد الرحمن حمود.. وآه يا حبيبتي ثم آه..
من يطمئن على سلامة من؛ الأحياء يطمئنون على سلامة الأموات، أم الأموات أولى بأن يطمئنوا على سلامة الأحياء؟
في بيتنا وحش
في حلب وحش
وأنا أتطوّح من ثانوية الحسن بن الهيثم إلى معهد حلب العلمي، ومن ثانوية عبد المنعم رياض إلى ثانوية المعري إلى دار المعلمين.. هذه هي أنفاسهم وأنفاسهن حرّى، طلابي وطالباتي وزملائي وزميلاتي، وما كان لي أن أفارقهم وأفارقهن حتى أموت، لولا الوحش الذي جعلني أهرب من حلب إلى اللاذقية، فإذا به يزلزل فيها أيضاً زلزاله، فأين المفرّ؟

حبيبتي، في منام كاليقظة، وربما في يقظة كالمنام، رأيتني أطير بك إلى حلب، نحطّ على رصيف جامع الميدان، مقابل ما كان بيتنا بالضبط، ننصب خيمة ثمّة، ننادي أرواح من ملؤوا البيت من أصدقائنا الراحلين، كي يملؤوا الخيمة، نفتح العزاء بمن استشهد صباح الجمعة، ننادي من أمدَّ الله بأعمارهم ليسوّروا الخيمة التي صارت بيتنا، وفي بيتنا وحش، وفي حلب وحش، لكننا هذه المرة، ومعاً يا حبيبتي، أحياءً وأمواتاً، سوف نصبّ على القاتل اللعنة، سوف ترين الأشلاء الطائرة ملء السماء تأوي مطهرة ومطمئنة إلى مثواها في قلبك وقلبي وهذه القلوب التي تملأ وتسوّر الخيمة التي صارت بيتنا، وما في البيت من وحش، ما في حلب من وحش.