في حضرة الشعوذة

 

 

نهلة السوسو - تشرين

 

 

حين حدثتني تلك المرأة المطلّقة, العاملة في بيوت الأثرياء, والموظفات اللائي لم يعدن قادرات على تنظيف بيوتهن المتواضعة كما يجب, عن ابنتها التي تعاني من أعراض اكتئاب الحمل الواضحة, راقبت حيرتها وقلقها الشديدين من مفاعيل الحالة التي جعلت زوج الشابة يهمل عمله ويجلس قبالتها كي لا تنتحر, أو تشرد في أحد أزقة الحي العشوائي, وأعلنت بتسليم أنها ستصحبها إلى شيخ ذي كرامات في إحدى الضواحي التي لم تأتها يوماً, لا بحكم الزيارة ولا الشغل ولا النزهة! حاولت إقناع السيدة التي احترمها وأحب تواصلها الاجتماعي الذي يتسم بعفة النفس والحياء والذوق أن توفر أجرة أسبوعين من عملها الشاق والمتنقل على مدى بيوت دمشق المتباعدة وأن تصحب المريضة إلى عيادة طبيب نفسي ليقدم لها مساعدة مضمونة النتائج لكنها رفضت قائلة: أخذت من الشيخ موعداً بصعوبة, ولن أفوته خشية أن أفقد البنت وطفلها وزوجها! ‏

 

تخيلت منزل ذلك المشعوذ المهيمن وهو يكتظ بالمرضى جنباً إلى جنب مع الأطباء النفسيين, ونحن في العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين وقد خرجت من الذاكرة أحداث رواية قنديل أم هاشم ليحيى حقي وأيام طه حسين, حيث فقدان البصر لا بسبب عدم توافر العلاج, بل بسبب اهتراء العقل واكتظاظه بالجهل والخرافة, وسريعاً انتقلت إلى روايات الواقع التي عشتها مع أولئك المتشبثين بسكب الرصاص وكتابة الحجابات, لاسترداد الحبيب بعد هجر, والسحر الذي يستجلب المواد الغريبة من ديك أسود لم يقف على مزبلة, ونبات على قمة صخرة لم يطأها كائن حي, وتفتيت قشرة أول بيضة باضتها دجاجة فتية, وخيط منتزع من قميص المحبوب, وشعرة ساقطة من رأسه على وسادة أو أرض الحمام, وكان هؤلاء يبدون في الروايات, رغم بؤسهم الفكري, من الطرائف المسلية, في إطار الفكر التنويري الذي نشط لنقلهم إلى واقع فيه محاكمة عقلية, تحترم قيمة الإنسان وتنقذه من الفكر الخرافي الذي يفضي إلى الكوارث والأهوال حين يحلل الواقع ويتعامل معه لكن ما تخيلت أن أعيش يوماً رواية من مثل هذه الروايات ‏

باتساع يذهل العقل, فيوم الجمعة الفائت جلست كالملايين من أهل جلدتي, أتابع الخبر المفجع وأشربه جرعة, جرعة, لأنني أعرف مسرح الجريمة شبراً, شبراً, ومازلت أقطعه ذهاباً وإياباً إلى مبنى الإذاعة, منذ ستة وثلاثين عاماً بشكل يومي وحفظت تفاصيله وظلاله وتبدلاته قبل أن تصبح ساحاته جميلة ومشجرة ومضاءة, وتفتح أنفاقه مستوعبة زيادة حركة السير الهائلة, وكنت أتأمل لوحات المحال والأبنية والمؤسسات, وآنس إلى أصوات الأحياء من بشر وقطط وسكة حديد غادرتها قطاراتها ولم يتخلّ عنها العابرون, بل لعلي صادقت في الخفاء الكثير من عناصر شرطة المرور وتوقيت الإشارات الحمراء والخضراء, لذلك راعتني صور الشهداء والدماء كأنها حصلت في منزلي الذي عشت فيه عمري, وغادرته لحظة لشراء حاجة فغدرني الدمار الإجرامي ولم يترك لي جاراً ولا صديقاً ولا عزيزاً! وقبل أن تهدأ الأنفاس خرجت غربان تنعق وتقص الرواية بطريقة تفوق تلك الروايات التي صاغها الجهل والعقل المهترئ الذي بسببه عميت عيون وانتحرت أمهات بريئات لم تمد لهن يد المساعدة, بل تمتمات مشعوذين! فوجئت محطة الشعوذة (المصدر للمحطات الموظفة لمتابعة الشأن السوري) بواقعة الهول وأجّلت نقلها أربع ساعات لترتب رواية يتناقلها مريدوها بحماسة وتسليم, وهم في هذه الحقبة السوداء ليسوا من الجهال الذين لا يفكون الحرف وانغلقت محاكمتهم الفكرية على حقبة عصر الانحطاط, بل من أولئك الحاقدين الذين ينتظرون كرامات شيخهم ليرددوها وقد جمع الشيخ أجزاء الصور وقرأ عليها عزائمه وقال لهم اكتبوا: إنها جثث حملت من أقصى الشمال السوري ونثرت على مدى الساحات ليقال إنه تفجير, ولأن العماء ضرب عقول وقلوب المريدين لم يسأل أحدهم من الذي حمل كل هؤلاء البوشار وبأي كيس؟ وهل سبق التفجير نثر الشهداء أم تلاه؟ وقد تجرأ أحد مريدي الشيخ إياه (وللمفارقة كل ملامحه تشي بأنه معتوه) وتجاوز شيخه قائلاً: إن التفجير عمل خلبي.. مستخفاً أولاً بدم الشهداء وأخيراً بعقول العقلاء الذين يعلمون أن القانون يجرم الشعوذة ويلاحق المشعوذين, وفي مواده عقوبات يعرفها رجاله, فإذا ما أتى يوم المحاكمة (ونتمناه قريباً جداً) أين سيكون هذا الجمهور الهزلي الذي يستخف بنا (نحن المفجوعين) وبحكم الله وعدالته, وما وسائل دفاعهم عن ترهاتهم قبل الدفاع عن محطتهم التي تفرق عنها من ضربته شعوذتها, بعد أن جربها ودفع لها الكثير على طريقة تلك السيدة البسيطة التي حاولت علاج ابنتها, لكنها خسرت المال وخسرت الشفاء في آن معاً! ‏