في ذكرى رحيل ياسر عرفات

  

تعرفت على ياسر عرفات «أبو عمار» أول مرة في نهايات عام 1968، في مقر إذاعة صوت العاصفة في القاهرة، وكان وقتها قادماً من عمان للقاء الرئيس جمال عبد الناصر، ورأيته آخر مرة في حصاره في مبنى المقاطعة في رام الله في أوائل عام 2004، حيث أمضيت في ضيافته قرابة سبعين يوماً، وعشت معه أو في محيطه في محطات كثيرة خلال عملي في قواتنا العسكرية في جنوب سوريا و جنوب لبنان، ثم خلال عملي في مهمات كثيرة في الجزائر و تونس و الأردن و العراق و اليمن التي عملت فيها سفيراً لمدة أربعة عشر عاماً.

 


وحضرت مع ياسر عرفات لحظات مكثفة من الأمل والإحباط، من الخطر الشديد والطمأنينة، لحظات الحصار في طرابلس حيث جاء إليه ليتمكن من إنقاذنا منه، وحتى لحظات الحصار في المقاطعة في غرفته الصغيرة التي يوجد فيها جهاز لإنتاج الأوكسجين من أجل القدرة على التنفس.

 


الخلاصة التي خرجت بها من ملايين التفاصيل التي تواصلت عبر هذه السنوات، أن ياسر عرفات كان رجلاً خارج كل التوقعات، و أنه كان وفياً لأقداره الصعبة، فلقد كان يعرف على مدار اليوم والساعة والدقيقة بل والثانية أحياناً أنه يلعب في ملعب أقوى الأقوياء في العالم، لأن قضيته تفرض عليه ذلك، الأقوياء الذين في يدهم مقاليد الأمور، ومصائر الآخرين في يدهم أيضاً، وكانت إحدى وسائله التي تمكنه من أن يكون نداً حقيقياً في الاشتباك المتواصل، أن يظل خارج التوقعات، مستعصيا على البرمجة، يضعه خصمه في خانة ويفاجأ بأنه خارجها!!! يضغطه خصمه في مكان ضيق، فيتمكن من الحراك و التفاعل والتأثير في هذا المكان الضيق الذي يعتقد الخصم أنه لا يصلح إلا للاختناق!!!

الأمثلة كثيرة بالطبع، في معركة الكرامة، في تجديد الانطلاقة بعد أيام من هزيمة الخامس من حزيران، في أيلول عام 1970، في حصار بيروت، وحصار طرابلس، في آثار الاجتياح العراقي للكويت، في آلية الذهاب إلى مؤتمر مدريد!!! و كان آخر المشاهد الخارقة وهو محاصر في غرفة في المقاطعة في رام الله ويشتبك مع إسرائيل في جبهة واسعة في نفس الوقت.

 


ياسر عرفات، رجل، وقائد، من نوع خاص، لأنه إنتاج قضية لا يوجد ما يشبهها، لا قضية فيتنام التي كان يتنافس فيها قطبان عالميان على مساعدة الفيتناميين هما الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية!!! ولا الجزائر التي بعد مئة وثلاثين سنة لم يزد فيها عدد الفرنسيين عن مئة ألف مستوطن فرنسي!!! بينما القضية الفلسطينية شيء آخر مختلف حتى في التعقيدات، لأن العدو الرئيسي يسكن في أدق التفاصيل، بما في ذلك خلايا الذاكرة التاريخية، وتلافيف الأسطورة، وفي بعض الأحيان غلالات الحكايات الدينية!!!
هذا الرجل الخارق، الذي أنتجته النكبة الفلسطينية بكل آلامها المفجعة، ومشاهدها الخارجة عن المعقول، وجد نفسه يلعب مع أقوى الأقوياء، ويستند إلى ما يعتقدون انه اضعف الضعفاء وهو الشعب الفلسطيني، شعب شطب من الخارطة بفعل أعدائه، وحمل أسماء غير اسمه بفعل اشقائه، يريده البعض ذاكرة منسية، ويريده البعض الآخر مجرد قميص عثمان، ويريده الباقون أن يظل هلاماً وليس دولة مثل الآخرين!!!

  


ياسر عرفات كان يستند إلى شعبه، إلى معرفته الأكيدة بهذا الشعب، إلى إيمانه به إلى مستوى بياض اليقين، بأنه أقوى مما يظهر عليه، وأنه حين يلتقط الفرصة فسوف يغير الخارطة، ولن يعود أي شيء مثلما كان.

  


من هنا، فإن ياسر عرفات في التقييم النهائي ليس مثل غيره، فهو لم يكمل شيئاً كان قائماً من قبل، ولم يصلح شيئاً قام واعوج فيما بعد!!! بل هو خلق شيئاً لم يكن وجد من قبل!!! رجل يقود شعباً في الشتات الواسع، يقود شعباً وضعه أعداؤه تحت صيغ شتى من المستحيل، و حالات متناقضة، وإمكانات اتصال مستحيلة، فهل يمكن بالوسائل العادية، والمصطلحات المألوفة، والآليات المكررة، أن يتمكن هذا الرجل من أن يصوغ وحدة شعب، ووحدة قضية، ووحدة ذاكرة، ووحدة حال؟؟؟

  


ياسر عرفات، بدأ من هول معرفته بالحقيقة، و ما أصعب الحقائق المتعلقة بالقضية الفلسطينية!!! حتى الآن و بعد اثنتين و ستين سنة على النكبة، ما زالت الحقائق مفجعة بصعوبتها!!! و هو بدأ من هناك، من أول غرزة في هذا النسيج الذي اسمه المستحيل!!!

 


حين شكل أول رابطة للطلبة الفلسطينيين في جامعات القاهرة في مطلع الخمسينيات، اكتشف أن فلسطين لم تعد مدعوة إلى أي محفل، و أن علمها بألوانه الأربعة المعروفة ليس مدرجاً على قائمة الاعلام التي ترفعها الشعوب والأمم في ساحات الاحتفالات الدولية، وانه حين يتحدث، سيسأله أيّ كان حتى من أتفه التافهين، أنت يا هذا تتحدث باسم من؟؟؟ فإن قال إنه يتحدث باسم فلسطين، سيبحثون عنها في الخارطة المتداولة فلا يجدون لها اسما!!! وإن قال انه يتحدث باسم الشعب الفلسطيني، سيقولون له عن أي جزء تتحدث، هل هو الذي هنا أم هو الذي هناك!!! إنه شيء فظيع في قسوته مازالت بعض أطيافه قائمة حتى هذه اللحظة!!! و كان قدر ياسر عرفات أن يبدأ ويستمر ويحيا ويستشهد خارج كل المعايير و التوقعات.

  


هل معركة الكرامة بعد تسعة شهور على هزيمة حزيران المدوية قرار عادي؟؟؟
هل الذهاب إلى مدريد بشبه وفد، بثمن وفد، هل هو قرار عادي؟؟؟
هل البحث عن منتهى الأمان في أقرب مسافة للخطر في سفوح جبل الشيخ هو قرار عادي؟؟؟ هل إعلان الثورة بين آبار النفط قرار عادي؟؟؟
هل موطئ قدم في غزة و أريحا أولاً قرار عادي؟؟؟
هل المسير اليومي في حقول الألغام والنوم على مخدات محشوة بالديناميت هو شيء عادي؟؟؟

  


لأن ياسر عرفات: كان قد صنع لنفسه هذا الهامش الذي يجعله يقول لا، حيث الجميع يتوقعون منه نعم، أو يقول نعم حيث لا مفر من كلمة لا!!! ضاق به ذرعاً الأعداء، وضاق به ذرعاً الرجال الصغار من المتآمرين، فتواطأوا وصنعوا له هذه النهاية التي نحتفي اليوم بذكراها السادسة.

  


لم يكن بوسعه أن يكون غير ذلك، رجل من طراز فريد، أنتجته مأساة شعبه، وأنضجته قسوة أعدائه، واهتدى في الليل بنور يقينه الذي وهبه الله، لم يكن في وسعه أن يكون غير ذلك، فقد عرف منذ اللحظة الأولى التي تشكل فيها وعيه الكامل، أن أقداره قد كتبت له هكذا، فقبل بها بشجاعة، و حملها بإبداع و اقتدار.

يحيى رباح - الحياة الجديدة "الفلسطينية"