في ذكرى وعد بلفور..

 

في الثاني من نوفمبر تشرين الثاني عام 1917، أي قبل ثلاثة وتسعين عاما، وقبيل نهاية الحرب العالمية الأولى رسميا بشهور قليلة، وقعت خطيئة كبرى غير قابلة للغفران أو النسيان، من بريطانيا العظمى في ذلك الوقت، باسم وزير خارجيتها (بلفور)، بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين!!!

 


كان ذلك هو النفاق الدولي في أبشع صوره، وكان ذلك قانون القوة الطاغية بأفدح أشكاله، حيث من لا يملك وليس عنده أدنى حق، يعطي لمن لا يستحق، يعطيه وطن شعب آخر وهو الشعب الفلسطيني!!! لم يكن في الأمر أدنى مشاعر، ولا أي نوع من العطف على اليهود كما يزعمون الذين ذبحتهم أوروبا في محطات كثيرة معنويا وماديا قبل الحرب وبعد الحرب!!! ولم يكن الأمر بمثابة حل لما كان يعرف آن ذاك بالمسألة اليهودية، بل استخدام هذه المسألة اليهودية كأداة في استيراتيجية استعمارية، تؤدي إلى خلق كارثة جديدة لشعب لم يرتكب أي ذنب بحق أحد، وهو الشعب الفلسطيني الذي فاقت نكبته ومأساته حدود الأساطير نفسها وما زالت مستمرة حتى يومنا هذا.

 


وعد بلفور إذا هو الخطيئة الأولى، حيث مصالح الكبار جعلت الشعب الفلسطيني يدفع ثمن جرائم لم يرتكبها، بل أصحاب بلفور ومن على شاكلتهم هم الذين ارتكبوها، وقبلت الحركة الصهيونية أن تكون هي الأداة، وهذا يضرب في الصميم الأساس الأخلاقي لهذه الدولة، لأن مؤسسيها وسياسييها حتى اليوم يصرون على إعادة إنتاج الخطيئة الأولى، يتصالحون مع الجاني الذي سامهم سوء العذاب، ونعتهم بأقذر الصفات، ودبر ونفذ ضدهم المجازر والمحارق، هذه الدولة إسرائيل تصالحت مع الجاني، وتقتص بوحشية لا مثيل لها من الضحية، من الشعب الفلسطيني، فهل يبقى لهذه الدولة أي أساس أخلاقي؟؟؟

 


وعد بلفور وتداعياته العملية، وما بني عليه من نتائج سياسية، يستحق أن يثار بالوعي الفلسطيني والعربي والإسلامي والدولي في كل لحظة، إنه بحاجة إلى إعادة تشريح، وإعادة قراءة شجاعة، لكي نتأكد أن إسرائيل مهما تكن الأسماء التي يريدونها لها، هي ابنة الخطيئة الأولى، وهي ابنة الاستهانة الدولية للشعوب الصغيرة المسالمة التي يجعلها حظها العاشر تقع بين أقدام الفيلة الكبار، كما قال جون فوستر دالاس وزير خارجية أميركا الشهير قبل أكثر من خمسين سنة!!!

إسرائيل مولودة من نطفة الظلم الصارخ، والعربدة غير المسيطر عليها، وهذا ما نواجهه كفلسطينيين كل لحظة من خلال السلوك السياسي والميداني لمكونات هذه الدولة، ابتداء من ائتلاف الحكومة الحالي الذي يشبه ائتلاف قطاع الطرق، وصولا إلى قطعان المستوطنين الذين يشبهون قطعان الذئاب المهووسة برائحة الدماء.

 


أنظروا إلى فتاوى مجالس الحاخامات، وفتاوى مجالس المستوطنات، ومسلسل الأكاذيب الذي يطلق عليه الضرورات الأمنية، وموجات التهويد التي لا تستثني لا الماضي ولا الحاضر، بل إنها تستهدف تطاريز الحرير على ثيابنا الفلسطينية، ودبكاتنا الشعبية، وأطعمتنا كنعانية الأصل، وأشجار زيتوننا المعمرة!!!

 


روح الخطيئة الأولى هي التي تحرك العقل السياسي الإسرائيلي، بل إن بعض الأصوات اليهودية عميقة الرؤية التي تحذر وتقول للمجانين المتعصبين، لا تعبدوا جنونكم، ولا تتجاهلوا المستقبل الآتي!!! هذه الأصوات تجد نفسها معزولة ومخنوقة في ذروة انتشاء الخطيئة، وقمة الاستسلام لإغراء القوة.

 


وعد بلفور المشؤوم الذي اعتمدته السياسة البريطانية، وورثته السياسة الاميركية، هو الذي استخرج منه قادة الحركة الصهيونية الكثير من خرافاتهم والكثير من مقولاتهم مثل أرض بلا شعب، وشعب زائد عن الحاجة، وشعب لا مكان له بين النهر والبحر فليبحث له عن مكان آخر.

 


إن إعادة إنتاج الخطيئة الأولى أمر مفهوم، لأن المجرم الذي يفلت بجريمته، سرعان ما يتدنى أداؤه العقلي والنفسي والأخلاقي إلى حد أنه يبرر جرائمه اللاحقة بأي شيء مهما كان تافهاً، وهذا ما يفعله الإسرائيليون الآن.

 


عندما نشرح وعد بلفور بعمق، سوف نكتشف أنه لا يوجد في مواجهة هذه الخطيئة ومحوها، أهم من وجودنا نفسه المستمر فوق أرضنا، فبعد ثلاث وتسعين سنة على وعد بلفور، وما جرى من نكبة مفجعة ونكسة كبيرة واحتلال ما زال قائما، فنحن ما زلنا موجودين هنا فوق أرضنا الفلسطينية، ليس بشكل فلكلوري، وليس لمتطلبات السياحة، بل وجودا كاملا بالملايين، وهذا الوجود الفلسطيني نفسه هو قدر إسرائيل مهما ادعت وعربدت وخابطت ولابطت!!! إن وجودنا الفلسطيني هو قدر إسرائيل، ويجب تعزيز هذا الوجود بمليون طريقة وطريقة، بحيث لا يمر يوم دون جعل هذا الوجود أقوى وأكثر تجذرا وأعلى حيوية!!!!

وهذا هو الاختبار الحقيقي لكل العناوين السياسية عند الشعب الفلسطيني سواء كانت وطنية أو قومية أو إسلامية، فمن يسير في هذه الاتجاه، أي تعزيز وجودنا فوق أرضنا فهو الوطني وهو الصادق، وهو المحترم، وهو الذي على صواب، أما من يزعزع هذا الوجود بأي شكل من الأشكال فهو أداة إسرائيلية مهما ادعى غير ذلك.

 


وهذا هو اختبار الأمة، ليختلف القادة العرب على أي شيء، هذا لا يهم، ولكن اختبارهم ينبع من الاتفاق فرادة أو مجتمعين على تعزيز وتقوية وتغذية هذا الوجود الفلسطيني فوق الأرض الفلسطينية، هذا هو الاختبار، لأن هذا الوجود الفلسطيني نفسه هو وحده دون غيره القادر على محو الخطيئة الأولى، وإنتاج الحق والعدل والسلام.

 

يحيى رباح - الحياة الجديدة "الفلسطينية"