في يوم المسرح العالمي

حكيم مرزوقي. البعث

لماذا نخجل ونشيح بوجوهنا شطر المعاجم القديمة حين نجد أنّ كلمة (مسرح) تعني أرضاً رحيبة لمرعى ومرتع الإبل والأغنام؟!..
لم يكن الأجداد في حاجة إلى بناء فضاء تخييلي أو حتّى واقعي لمقارعة السباع ومحاكاة الآلهة وأنصافها والتطهّر من لعنة الصراع بين الوجود والعدم كما يفعل الرومان. لم يكن الأجداد على باطل، بل كانوا على صهوات الجياد يواجهون مصائرهم ويبحثون عمّن يخبّر عنهم بالشعر المسافر من صدور الرجال إلى ألسنة الثقاة.

 


كانت الأذن تعشق وتتذوّق قبل العين التي أنهكتها رمال الصحراء وألهتها مراقبة الأعداء حتّى أنّ عرب ما قبل الإسلام تناسوا الطرشان تماماً واستبعدوهم من أحاديثهم ، على عكس العميان والمكفوفين الذين ظلّوا حاضرين شعراً وسطوة وحتّى قتالاً.. (من قتل عنترة؟!).
إنّ ما تقدّم من حديث لا يلغي حاجتنا إلى المسرح حاجة الهولندي إلى بترول وحاجة الخليجي إلى ورود، لأنّنا ببساطة لم نعد نسكن الخيام -وإن كانت ما تزال تسكن بعضنا– ولكن أيّ مسرح نريد؟وأيّ لون (يمسرحنا).

 


إنّ الذي يتمسّك بالأشكال الوافدة ويتمثّلها كمثل الذي يحاول أن  يستنبت شجرة في غير تربتها أو يربّي حيواناً في غير بيئته. ليس الأمر استنطاقاً ولا استنهاضاً لحركة الأسواق القديمة ومجالس الأفراح والتعازي كظواهر سادت ثمّ بادت، ولكنّه بحث عن النكهة المحليّة في الماركات العالميّة بمواصفاتها الراهنة.
المحيّر في الأمر أنّ بعض (المسرحجيين) في البلاد العربيّة يشبه حالهم حال من يلبس الكيمنو الياباني ويأكل السوشي ويمارس كلّ الطقوس السامورائيّة، بينما يعيش هو وقومه في بادية تأكل المنسف وترقص الدبكة!!.
هل هذا هو مفهوم الحداثة والانفتاح على تجارب الآخر؟..
لماذا هذه الغربة المفتعلة التي يسعى إليها بعضهم؟!.. هل أمسى الفن والثقافة حفلاً تنكّرياً أمام المعنيين بالحفل نفسه!..
إنّه الهروب من جهل الذات إلى ادّعاء معرفة الآخر والتستّر على العجز بارتداء عباءة الغموض والغرائبيّة.
اللعبة مكشوفة إلى حدّ الرثاء لأمرهم، كيف يشتكي هؤلاء من هروب الجمهور منهم وهم الذين نصبوا له الفزّاعات على الخشبات وخاطبوه بلغة المرضى والمعقّدين واستعلوا عليه في الصوامع الوهميّة وعاملوه كأصغر وأقلّ من مريد؟!.. ما ذنب إنسان عادي وطيّب وبسيط اقتطع من خبز أطفاله مبلغاً وجاء يحضرهم، لأنّهم قالوا له: المسرح خبز الشعوب.. ثم عاد إلى بيته يسأل نفسه ويجيبها: (لم أجد خبزاً ولا قمراً ولا حشيشاً).
المسرح -ببساطة المسرح- ليس معبداً ولا يتحمّل رهباناً ولا متنسّكين  ولا قرابين ولا طقوسيات. إنّه فسحة تكاد تكون بحجم الحياة التي لا نمتلك غيرها ولا تمتلك غيرنا، الحياة ومن عليها من أشرار وأخيار، قدّيسين وأبالسة، راهبات وعاهرات، بل لعلّه حقل لرصد التحوّلات بين هذه الأرهاط جميعها والوقوف عند أبواب الجحيم.
من أراد المسرح فليبحث عنه خارج أبواب المسرح وغبار المكتبات وثغاء المنابر والتنظيرات. ليبحث عنه في غريب سلوك الناس وحيرة اتجاهاتهم ووحشة مصائرهم، في فرحهم العابر وغضبهم العابر وحزنهم العابر.
من أراد المسرح فلينسَ المسرح والمسرحيين، ويتذكّر الحياة وعشّاق الحياة وهم يكبون كالأحصنة المسنّة ويتذكّرون كالفيلة المسنّة ويحلّقون لآخر مرّة كالنسور المسنّة ويسرحون في المراعي الرحبة دون اعتبار للحدود والرعاة ، تماماً  كالإبل والأنعام، وكما عرّف الأجداد المسرح في قواميسهم المثقلة بالصدق دون ادّعاء.


ذكر الآمدي أنّ أحدهم سأل أبا تمام: لماذا تقول ما لا يفهم؟..
ردّ الأخير: لماذا لا تفهم ما يُقال.
هذا عن الشعر وأبي تمام، وفي ذاك العصر المتخبّط في جدليّة الخطاب والتلقّي كمعضلة نقديّة لها مشروعيتها، أمّا عن المسرح وفي أيّامنا هذه فلقد سأل أحدهم واحداً من الذين شوّهوا المسرح والذائقة تحت ستار التجريب الذي يظنّونه ما تنطلق منه وليس ما تصل إليه وتحت سابق إصرار وترصّد: لماذا تفعل ما لا يفهم ولا يطاق على هذه الخشبة؟!..
أجاب: كي لا تأتي ثانية فأقطع رزق وأمل من يفكّر في العمل في المسرح، هكذا يمسي المسرح مسرحاً للعابثين بالمراعي الخصيبة!.