فيكتوريو أريغوني ... وداعاً بالحب والدموع

 

بالأمس رحل جثمان الناشط الإعلامي الإيطالي فيكتوريو أريغوني عن غزة؛ الأرض التي أحبها وأحبته تودعه دموع الآلاف من أبنائها.. لم تبق جهة رسمية أو شعبية إلا وندّدت بعملية الاختطاف والتصفية الجسدية البشعة التي طالت واحداً من أهم مناصري القضية الفلسطينية.. لقد شاهدناه يتحدى الاحتلال بوقفته التضامنية مع الصيادين في البحر، ومع المزارعين يقطف معهم محصول الزيتون ويشاركهم حصاد قمحهم في المناطق الحدودية، كما رأيناه يسجل بكاميرته جرائم العدوان الإسرائيلي على غزة، ويقف إلى جانب أُسر الضحايا مواسياً، ومؤدياً واجبه في نقل مشاهد الجريمة إلى الفضاء الغربي وخاصة في القارة الأوروبية.

لقد وجدناه يعمل على تشجيع أصدقائه في منظمة التضامن الدولي (ISM) للقدوم إلى غزة لحشد موقف دولي داعم للحق الفلسطيني.. لقد زارني في مكتبي بوزارة الخارجية في غزة، والتقيت معه كذلك أكثر من مرة مع مجموعة من أصدقائه، من خلال عملي كرئيس للجنة الحكومية لكسر الحصار واستقبال الوفود، ليحدثني عن عمله وعن نشاط المجموعة التي يعمل معها، كانت نصيحتي له ولكل الذين آثروا البقاء إلى جانبنا في غزة: "كن حذراً، الوضع – بلا شك - آمن هنا، ولكن لا تجعل من نفسك هدفاً سهلاً، لأن هناك من يريد تخريب الوضع وإعطاء الإنطباع بأن غزة فيها فلتان أمني بهدف طعن مصداقية حكومة حماس، باعتبار أن استتباب الحالة الأمنية هو رأس مالها الذي تفخر به.. هذا من جانب، ومن جانب آخر أن إسرائيل معنيّة بخلق حالة من الرعب والفزع لتثبيط همّة كل من يفكر في القدوم إلى غزة للتضامن مع أهلها وكسر الحصار عنهم...".

لاشك أن طول مدة إقامة فيكتوريو بيننا ومعرفة الناس له قد منحته إحساساً مضاعفاً بالأمان، جعله يتحرك لوحده، ويتنقل بحرية لمعرفته الواسعة بالقطاع ومدنه وحواريه.. إنني أكاد أجزم بأن كل المؤسسات الشعبية في القطاع تعرفه، حيث شارك الجميع في فعالياتهم الوطنية والإنسانية، وكانت كاميراته حاضرة تنقل الوقائع إلى الساحات الأوروبية، وإلى أهم المواقع العالمية الموجودة على الشبكة العنكبوتية والتي من بينها مواقع التواصل الإجتماعي(FACEBOOK-TWITTER).

كان فيكتوريو جسوراً لا يعرف الخوف، وكانت كاميرا الفيديو التي يحملها على كتفه أسرع في التقاط فظائع العدوان والإجتياحات الإسرائيلية، وتسجيل المشاهد الإنسانية التي تعكس معاناة شعب غزة، وتفضح بجراءة جرائم الاحتلال.

الموقف الرسمي: عدالة لن ترحم الجاني

منذ أن انتشر خبر الاختطاف، تحركت الأجهزة الأمنية في غزة لملاحقة الجناة، وتواصلت الحكومة بكافة مستوياتها السياسية على مدار الساعة، واستنفرت حركة «حماس» كوادرها التنظيمية لكي يفتح الجميع عيونه وأذنيه في كل ركن من أركان غزة، لعل أحداً يرى أو يسمع ما يقود إلى مكان الصحفي المختطف، لم ينم أحد في حماس تلك الليلة إلى أن بدأت خيوط الجريمة في الانكشاف، وما أن وصلت الأجهزة الأمنية إلى المكان - بعد منتصف الليل - كان فيكتوريو قد فارق الحياة قبل ساعتين، حيث تعجّل المجرمون تصفيته قبل وصول الحكومة.

إن موقف الحكومة الرسمي هو ملاحقة المجرمين وإخضاعهم لمحاكمة عادلة لن ترحم الجناة الذين أساؤوا لسمعة شعبنا وقيم ديننا، وما عرفته الشعوب عنّا من سلوكيات عالية في التعامل مع ضيوفنا الأجانب، وخاصة أولئك المتضامنين الذين جاؤوا من كلّ فج عميق ليشهدوا معنا ملحمة تحدي الحصار وكسره.

لن ينسى شعبنا تضحيات هؤلاء الشباب وركوبهم الصعاب وتحملهم المشاق دفاعاً عن حقنا في الحرية والاستقلال. 

فيكتوريو والشعار: كن إنساناً

لقد لاحقت عيناي كلماته وهو يجيب كل من يسأله لماذا أنت هنا، ولماذا تتجشم ركوب الصعاب في غزة وتُعرض نفسك للمخاطر في غزة ؟ لكنّ كلماته "كن إنساناً" تختصر الإجابة وترفع المقام.

نعم؛ الرجل حمل روحه على كفّه، لأنه أراد أن يكون إنساناً لا يقيم على ضيم فرضه الاحتلال على أهل غزة، لذلك اختار الرباط إلى جانبهم وعاش حياتهم، وانتظر الشهادة معهم.. للأسف، كان الباغي الذي أخذ روحه ينتسب لهذا الشعب الذي جاء يدافع عنه وعن قضيته.. إنها حالة عار وخدمة للمحتل الغاصب، لن تبرأ منها ساحتنا وتطهر بسهولة، لقد جلب من ارتكبوا هذه الحماقة الأذى لشعبهم وقضيتهم، وحققوا لإسرائيل ما تريده من الدعاية لإرهاب كل من يفكر بالقدوم إلى غزة للتضامن مع أهلها، أو يسعى لكسر الحصار عنها.

يا شهيد الوطن: لن تهدأ العيون

في موكب مهيب ودعتك غزة بالحب والدموع، كان الشباب أكثر غضباً وتنديداً بالجريمة النكراء، فتحركوا بفعاليات واسعة في ساحة الجندي المجهول ومقهى الغاليري الذي اعتاد شهيد الوطن التواجد فيه، كما حشدوا لمسيرة الوداع المئات من طلبة الجامعات ومؤسسات المجتمع المدني لمرافقة الجثمان إلى معبر رفح، حيث انطلق من هناك ليواري الثرى في بلده إيطاليا.

كانت الدموع أكثر تأثيراً من كل الكلمات وأشدها وقعاً على نفوس هؤلاء الشباب الذين عرفوه وسهروا طويلاً معه يبثون له شكوى الوطن وقسوة الاحتلال.

لن تفي كلمات الإدانة والشجب والاستنكار مهما كانت بلاغتها حق شهيد الوطن، ولن تخفف من لوعة أمه وحسرتها.. إن "اجيديا برتا" والدة المتضامن الايطالي تترأس بلدية بولتشجو شمال ميلانو، وقد أصابتها حالة من الاستغراب والذهول لمقتل ابنها، وقالت: "لا أفهم كيف يقتله الشعب الذي جاء من أجل الدفاع عن قضيته.؟! ثم أعقبت بالقول: إنها آتية إلى غزة.

يا شهيد الوطن، نأسف أن غدر بك بعض الجهلة المضللين من أبناء شعبنا، وألف ألف اعتذار لكل المتضامنين معنا من أجل قضيتنا ومن أجل كسر الحصار عن غزة.. نعدكم أن دماء (فيكتوريو) لن تذهب هدراً، فالحكومة في غزة وعدت أن تأخذ القصاص له، لأن هؤلاء المجرمين انتهكوا قداسة القضية وأهانوا قيم ديننا الحنيف، وتعدوا بشكل فاضح على ما عرفه الناس عنا من أخلاقيات عالية ومروءة وحب لكل من جاء يقف معنا ويشاطرنا الأحزان.

وداعاً يا فيكتوريو.. إن حركة الدمع في عيني لم استطع حبسها وأنا أشاهد موكب الجنازة حزناً عليه، وحسرة على هذا الوطن الذي ساق جهل وتهور حفنة من أبنائه العار على قضيتنا وشعبنا.

إن أملنا كبير أن تُشفي حكومتنا غليل قلوبنا بالقبض على كل الجناة، وتقديمهم إلى العدالة لينالوا جزاءهم على جريمتهم بحق وطننا وقيمنا وسمعتنا في العالمين.

عزيزي فيكتوريو.. لقد رحلت اليوم عن غزة، ولكنَّ غزة التي أحبتك لن تفرط بك، فقد منحتك حق الإقامة والبقاء فيها، وسوف يتجسد ذلك بإطلاق اسمك على أحد شوارعها، وستمتلئ الجداريات بمشاهد الذكريات للفتى الذي أحب فلسطين، وأحب مقاومتها، وعشق سحر بحرها، وكان نصيراً لكل ضعفائها، وجاد بنفسه " والجود بالنفس أقصى غاية الجود"، من أجل إيصال حقيقة معاناة أهلها، وفضح جرائم الاحتلال .

وداعاً يا فيكتوريو.. لقد حفرت في ذاكرتنا حضوراً خالداً لك، لن ينساك أحدٌ في غزة؛ فمشاهدك أضحت صوراً في كل شارعٍ وميدان؛ فأنت - اليوم - علامة مميزة للمناضل الثائر الذي سيجد له في صفحات التاريخ سمعة طيبة ومكان كريم.

وحسبنا الله ونعم الوكيل..


 

احمد يوسف - القدس