قائد السبسي ... من وزير لبورقيبة إلى رئيس حكومة ستُقوض دستوره
بعد أربعين عاما من إفشال خطة الإصلاحيين الذين أرادوا أن يفرضوا على الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة دفع تونس نحو الإنفتاح السياسي، عاد الباجي قائد السبسي (85 عاما) إلى دفة الحكم ليُحقق برنامجا أعلى سقفا بكثير مما كانت تُؤمل تحقيقه القيادات الشابة التي تمردت على سلطات بورقيبة المطلقة في سبعينات القرن الماضي.
ففي العام 1971 استطاع رموز الجناح الليبرالي في "الحزب الإشتراكي الدستوري" (الحزب الواحد آنذاك) أن يُحولوا المؤتمر العام للحزب، الذي حرص بورقيبة على عقده في مسقط رأسه مدينة المنستير، إلى منبر للدفاع عن الخط الإصلاحي في مواجهة خيار التشدد الذي قاده مدير جهاز الحزب محمد الصياح، مدعوما من رئيس الوزراء الهادي نويرة وزعيم اتحاد العمال الحبيب عاشور.
واستثمر الإصلاحيون انهيار تجربة التعاونيات التي قادها الساعد الأيمن لبورقيبة الوزير أحمد بن صالح طيلة الستينات، ليُشكلوا غالبية واضحة في مؤتمر المنستير. ومن رموز هؤلاء الإصلاحيين وزير الداخلية أحمد المستيري وقائد السبسي وحسيب بن عمار، الذين استطاعوا فرض إجراءات داخلية للحد من صلاحيات رئيس الحزب العجوز (71 عاما) وإعطاء دور أكبر للجنة المركزية والمكتب السياسي، بالإضافة لإشاعة مناخ من الحريات في المجتمع وإن في إطار التمسك بنظام الحزب الواحد.
مؤتمر مضاد
لم يقبل بورقيبة الهزيمة وباشر بتحجيم الجناح الإصلاحي بعزل رموزه من مناصبهم الحكومية والحزبية، فيما انطلق الثلاثي الصياح ونويرة وعاشور في إعداد مؤتمر مضاد لمحو آثار المؤتمر الذي سيطر عليه الإصلاحيون. ولما اتجه النواب في 1974 إلى مقاعدهم في المؤتمر، الذي أطلق عليه اسم "المنستير2" إمعانا في الثأر من سلفه، كان رموز التيار الإصلاحي قد باتوا خارج الحزب. لا بل إن المؤتمر قرر رسميا طردهم من صفوفه، ساحبا منهم وسائل الفعل السياسي في نظام لا يعترف إلا بحزب الزعيم. مع ذلك شكل المعزولون، تيارا خارج الحزب بات يُعرف بـ"الديموقراطيين الإشتراكيين"، على رغم أن نتائج المؤتمرين الأول والثاني أظهرت أنهم كانوا يمثلون الغالبية داخل صفوفه. ومع تصاعد الخلاف بين حكومة نويرة واتحاد العمال على صفيح موجات من الإضرابات العمالية في أواسط السبعينات، استطاع "الديموقراطيون الإشتراكيون" أن يحصلوا على امتياز إصدار أول صحيفة مستقلة هي "الرأي" التي كان من بين كتاب افتتاحياتها قائد السبسي والمستيري وحسيب بن عمار. وحاول الثلاثي منع الصدام بين الحكومة واتحاد العمال بزعامة الحبيب عاشور بتفادي شن إضراب عام في 26 كانون الثاني (يناير) 1978، إلا أن مدير جهاز الحزب الصياح، الذي عبأ ميليشياته لمواجهة النقابيين، مدعوما بالمدير العام للأمن الوطني الجنرال زين العابدين بن علي، دفعا البلد إلى مواجهة عنيفة أوقعت عددا كبيرا من الضحايا وكادت تحرق العاصمة وعدة مدن داخلية.
مواجهة انتخابية
عمقت تلك المواجهة الخلاف بين صفوف ما بات يُعرف بمجموعة "الرأي"، فتيار الإصلاحيين انقسم إلى جناحين تزعم الأول أحمد المستيري، الذي التف حوله شباب المجموعة داعيا إلى تأسيس حزب بديل سرعان ما أبصر النور في 1978، فيما تمسك الجناح الذي قاده حسيب بن عمار وقائد السبسي بأن التغيير لا يمكن أن يأتي إلا من داخل جهاز الدولة، رافضين القطيعة مع بورقيبة. وما إن حرك العقيد معمر القذافي شبح التداخل الخارجي في الصراعات التونسية بإرساله كوماندوسا مسلحا إلى مدينة قفصة في بواكير 1980، حتى وجد بورقيبة الإصلاحيين في مقدم المتضامنين معه. وسرعان ما أعيدت مجموعة قائد السبسي إلى الحزب، لا بل إن بورقيبة اختار هذا الأخير لقيادة مرشحي حزبه في العاصمة تونس، لمواجهة غريمه المستيري في أول انتخابات تعددية عرفتها تونس. وطبقا لأقوال المعارضة وشهادات الصحافيين، التي أكدها الوزير الأول آنذاك محمد مزالي في مذكراته التي أصدرها لاحقا، حقق المستيري فوزا ساحقا على قائد السبسي، عزاه المحللون للضجر من حزب بورقيبة بعدما حكم البلد بقبضة حديدية طيلة ربع قرن. إلا أن النتائج زُورت لصالح حزب الرئيس على ما قال مزالي ووزراء آخرون في مذكراتهم. ومن البرلمان انتقل قائد السبسي، الذي كان شغل منصب وزير الداخلية بين 1965 و1969، إلى مناصب حكومية انتهت به وزيرا لخارجية بورقيبة من 1981 إلى 1986.
مع شيخوخة الزعيم الطاعن في السن تعددت المناورات في القصر واستعرت حرب الخلافة بين أفراد حاشيته، إلا أن الرياح كانت تدفع بزين العابدين بن علي إلى الصف الأول، خاصة أنه كان الوزير الأول لبورقيبة وخليفته المُعين طبقا للدستور، فأطاح بجميع المنافسين الآخرين وعمل بالخصوص على إقصاء الوجوه السياسية من ذوي القامات التي ترتفع أكثر من قامته، ومن بينهم المستيري وقائد السبسي والصياح ومزالي.
ولم يكن غريبا أن كثيرا من التونسيين رحبوا بتولي الباجي قائد السبسي (85 عاما) رئاسة الوزراء، وهو الذي كان من رموز العهد البورقيبي، فما عانوه من زين العابدين بن علي طيلة نحو ربع قرن من الحكم البوليسي جعلهم يترحمون على رئيس الجمهورية الأول الحبيب بورقيبة (1903 -2000)، الذي مات وهو في سجن من فئة خمس نجوم في مسقط رأسه المنستير. وفي زمن بات إعلان الولاء لبورقيبة في مثابة تمرد على رجل الأمن الذي حل في مكانه، بدا وزراء بورقيبة السابقون من قماش مختلف تماما عن ذلك الرجل الذي لا يخاطب الشعب إلا من أوراق يكتبها مستشاروه بلغة لا روح فيها ويتحاشى أي احتكاك مع الناس العاديين، إلا ما يُعده حرسه الشخصي بعناية لا تترك أي تفصيل للصدفة. بهذا المعنى شعر التونسيون أن في البلد رجال دولة من طراز نسوه منذ فترة بعيدة، أو من نوع لم يعرفه بالمرة شبابهم الذين أبصروا النور بعد تنحية الرجل العجوز في 1987. خاطب قائد السبسي للمرة الأولى الشباب المعتصمين في ساحة القصبة (مقر الحكومة) عبر التليفزيون من دون ورق ولا جمل مُنمقة فأقنعهم بأنه تبنى مطالبهم، وسرعان ما أخذوا يغادرون المكان في اليوم نفسه مُنهين الإعتصام المديد. وما أن غادروا حتى بدأ تنظيف الساحة ومقرات الوزارات المُطلة عليها ما أتاح عودة الوزير الأول وباقي الوزراء أمس إلى العمل من مكاتبهم.
تصفية مدرسة بورقيبة
ما أن تسلم بن علي الحكم في أعقاب "الإنقلاب الطبي" الذي حاكه ضد رئيسه، بمساعدة سبعة من أطبائه الشخصيين، حتى "ضبط" البورقيبيين البارزين فوضع بعضهم في السجن الإحتياطي وفرض الإقامة الجبرية على البعض الآخر. لكن قائد السبسي كان أحد القلائل الذين نجوا من تلك الحملة، التي انتهت بعد أيام بالنسبة الى البعض واستمرت حتى أواخر أيام بن علي بالنسبة الى الآخرين.
كان وجوده على رأس لجنة الشؤون السياسية والخارجية في مجلس النواب حافزا لبن علي كي يختاره رئيسا للبرلمان لسنتين بين 1989 و1991 قبل إخراجه منه في انتخابات 1994. وساعده إبعاده من مؤسسات الدولة على تسجيل مذكراته في كتاب أصدره بالفرنسية قبل انهيار نظام بن علي بأشهر قليلة، وما زالت ترجمته العربية قيد الطبع.
لكن من مفارقات الزمن أن رئيس الوزراء الجديد الذي أكد أنه لا يخجل من كونه أحد رجال بورقيبة، ردا على انتقادات أحد المعارضين الذي عيره بكونه "جاء من الأرشيف"، مُعتبرا ذلك مصدر فخر له ولجيله "الذي بنى الدولة" كما قال، هو المُتطوع اليوم لتقويض أساس البورقيبية، أي دستور العام 1959 الذي وضع أركان النظام ومؤسساته السياسية. أكثر من ذلك، أنهى دور البرلمان بغرفتيه وحل جهاز الأمن السياسي الذي كان قائد السبسي نفسه من بُناته الأوائل في 1963، لما تسلم الإدارة العامة للأمن الوطني على إثر محاولة انقلابية فاشلة ضد بورقيبة، ثم بعد توليه وزارة الداخلية في أعقاب وفاة الوزير القوي الطيب المهيري سنة 1965.
ملاحقة لبن علي
وفي السياق نفسه استجاب قائد السبسي لطلب الرأي العام والقوى السياسية ملاحقة زين العابدين بن علي قضائيا بتهمة الفساد وتبديد المال العام، إذ فتح الادعاء العام أخيرا تحقيقا في أصول الرئيس المخلوع والمقربين منه. وأفيد أن التحقيق سيشمل معاملات مالية لبن علي يُشتبه في عدم قانونيتها وتتعلق بحساباته المصرفية داخل تونس وخارجها. كما تمتد تلك التحقيقات القضائية إلى أصول زوجته الثانية ليلى الطرابلسي وأصهاره وزوج ابنته صخر الماطري وعدد من أفراد عائلته والمقربين منه. وكشف البنك المركزي التونسي أن قيمة القروض المصرفية بذمة شركات ومؤسسات اقتصادية مرتبطة بالرئيس المخلوع وعائلته تبلغ 2.5 مليار دينار تونسي (1.75 مليار دولار). وأوضح محافظ البنك مصطفى كمال النابلي أن حجم هذه القروض يعادل 5 في المئة من الحجم الإجمالي للقروض التي أسندتها البنوك التونسية لتمويل مشاريع اقتصادية في البلاد. وشكك النابلي في استرجاع 430 مليون دينار (291 مليون دولار) من جملة القروض لعدم توافر ضمانات بنكيّة. وأشار إلى أن أكثر من نصف القروض تم توجيهها لتمويل مشاريع لأربع شركات فقط من أصل 182 شركة مرتبطة بالرئيس المخلوع وعائلته هي شركتا الاتصالات الخاصتان "تونيزيانا" و"أورانج"، وشركة "إسمنت قرطاج" ومصنع "سكر تونس". ولم يُحدد النابلي حجم الأموال التي هربها بن علي وعائلته، مؤكدا أن الإحصاءات في هذا الشأن "غير دقيقة"، غير أنه توقع أن تكون عملية استرجاع الأموال المهرّبة "صعبة" وأن تستغرق وقتا طويلا.
شام نيوز - صحف