قبل ذهابي إلى سوق البوابير

سوسن جميل حسن - بلدنا
استدرجني صباح ربيعي لطيف إلى الخروج للسير والتسكع في الشوارع على نية الرياضة، بعدما مرت الشهور الماضية ثقيلة جبارة، فرضت علينا أنظمة حياتية تناسبها، ليس آخرها الجلوس المديد أمام الشاشات أو الكمبيوتر، متلهفين لاقتحام فضاء الفيسبوك الذي تربع على عرش السيادة، فعوّضنا عن الواقع المتحقق بشراسة قاتلة، بعالم له ملامحه الفريدة المراوغة بين الوهم والواقع، بين الافتراض والتحقق.
رحت أمشي دون هدف سوى أن ومضة خاطفة من الرضا لمعت في داخلي، عندما استنتجت أن مجرد إحساسي بالجو اللطيف هو انتصار على ذاتي، فقد مرّت علي أسابيع طويلة من البلادة والإحساس باللاجدوى، وهذا بحد ذاته كان يرمي بي إلى قاع عذابات الضمير، فكنت أشعر أنني أرتكب الخيانة تجاه وطني في محنته. كان يكفيني أن أقبض على ذاتي متلبسة بفعل لا إنساني أمارسه بآلية منتظمة وأنا أتناول وجبات طعامي أمام التلفزيون البارع في عرض مشاهد القتل البشري الشرس والدماء الحارة وهي ترسم النزيف الأخير لأطفال ونساء وأبناء الوطن، حتى أشعر بالغثيان من نفسي، ويدخلني في حالة البلادة التي أسلفت.
رحت أمشي دون هدف سوى أن ومضة خاطفة من الرضا لمعت في داخلي، عندما استنتجت أن مجرد إحساسي بالجو اللطيف هو انتصار على ذاتي، فقد مرّت علي أسابيع طويلة من البلادة والإحساس باللاجدوى، وهذا بحد ذاته كان يرمي بي إلى قاع عذابات الضمير، فكنت أشعر أنني أرتكب الخيانة تجاه وطني في محنته. كان يكفيني أن أقبض على ذاتي متلبسة بفعل لا إنساني أمارسه بآلية منتظمة وأنا أتناول وجبات طعامي أمام التلفزيون البارع في عرض مشاهد القتل البشري الشرس والدماء الحارة وهي ترسم النزيف الأخير لأطفال ونساء وأبناء الوطن، حتى أشعر بالغثيان من نفسي، ويدخلني في حالة البلادة التي أسلفت.
عزمت على الذهاب إلى الأسواق في نهاية مسيري، سوف أشتري (بابور الكاز) الذي حرض الحنين في داخلي، وهذه علامة أخرى على انتصاري على بلادتي، فما زال صوت شخيره في ذاكرتي يعيدني إلى تلك الطفلة التي كنت، وأنا أرى جدتي وهي تدكه بمدحم جانبي، ثم توقده بعود ثقاب، وتنتظر اللهب حتى يخبو ثم تعيد دكه من جديد ليتحول لون شعلته من الناري إلى الأزرق، عندها تبدأ سيمفونية الشخير التي كانت تصيبني بالنعاس على إيقاع رتابتها، لا يوقظني من حالة النوم الحالمة تلك إلاّ عودة جدتي لدك البابور، ولعناتها المتكررة بسبب ما ينتظرها من جهد لتنظيف الهباب الأسود على الطناجر.
مع هذا سأقتني البابور، ليس من أجل الفانتازيا كما درج في السنين الخوالي، عندما صار قنديل الكاز وبابور الكاز وأشياء أخرى لها علاقة بالماضي ومسيرة التطور، صمديات تزين أركان الفيلات والبيوت، بل لأنني مثل غيري من أبناء هذا الشعب المسكين، نريد أن نأكل ونطعم أطفالنا، لكننا شعب جبار، رحت أحدث نفسي، ففي كل أزمة نمر بها ندفع الثمن صاغرين، مولدات الكهرباء وقد أغرقت الأسواق في أزمة الكهرباء التي اختفت بين ليلة وضحاها، لم يكن كل الناس قادرين على شراء المولدات، فكان البديل قناديل الكاز التي غطّسنا فتيلها بزيت النفط عوضاً عن الكاز الممنوع بيعه في الكازيات. وها هي أزمة الغاز تحيلنا إلى الزمن الرومانسي، لم نعد نسمع صوت فيروز في شوارعنا يتحفنا به بياعو الغاز، لكنه متوفر لمن يدفع ثمن الأسطوانة ألفاً وخمسمئة ليرة على موسيقا الصمت، صرنا نحن من يجب أن يغني «وينون؟»، وكي لا تتعكر أحلامنا صارت الكازيات تبيع الكاز، فمن دونه كيف للمواطن أن يشعل البابور؟، لا بد للحياة من أن تستمر وإلاّ سيفنى الجنس البشري. ثم هذه البدائل ترفد الخزينة العامة، فهذه الصفقات التجارية الرابحة بجدارة يترتب عليها ضرائب ورسوم، من قال إن الموظف يدفع أكبر نسبة ضرائب للدولة؟
للأمانة، ومن أجل ألاّ يعكر صفو مزاجي الصباحي همّ آخر، اتجهت إلى منطقة المدينة الجامعية بدلاً من الكورنيش فذاكرتي هناك تؤلمني. أمام سور الجامعة رصيف عريض يناسب رياضة المشي، كانت الساعة قاربت الحادية عشرة، لمحت من بعيد على الجهة المقابلة لسور الجامعة، حيث تتاخم المكتبات المتخصصة بالخدمات الجامعية بعضها بعضاً، حشداً كبيراً من الشباب والشابات، صحاني المشهد من هواجسي. معقول؟ قلت في نفسي. مظاهرة طلابية؟ انتابني شعور ملتبس، ازدادت نبضات قلبي حدة وتسارعاً، لم يكن التوجس من ارتفاع الهتافات بعد قليل، وهدير الرصاص في المقابل، هو ما جعل نبضي يتسارع، بل ربما إحساس مضمر ساهم في رفع الوتيرة، فألفيت نفسي أسرع في سيري لأصبح بجانب المحتشدين. كانوا طالبات وطلاباً ينتظرون أمام واجهات المكتبات ليشتروا الملخصات والمحاضرات التي يسجلها بعض الطلاب خلف الأساتذة، وتصور ثم تباع في المكتبات بتواطؤ خفي وعدالة في توزيع المردود، ثم تصبح هذه المحاضرات الملخصة هي مقررات الامتحان الذي سيقدمه الطالب الجامعي ويحصل بموجبه على ورقة الفيزا التي ستدخله ميدان الوظيفة الحلم، ليصبح فيما لو صحّت النبوءة عاطلاً عن الحلم والأمل.
ابتعدت عن الحشد مخلفة ورائي تلك الومضة الخاطفة المرتبكة، مسكونة بحزن قديم يتجدد، على أولئك الشباب المحتشدين كما يحتشد المواطنون أمام أكشاك البيع أو مراكز توزيع الأرز والسكر والزيوت أمام نوافذ صالات المؤسسات الاستهلاكية، رنت كلمة (الاستهلاكية) في وجداني بوقع له رنين الحقيقة المؤلمة. اكتشفت كم نحن رهائن للاستهلاك، المقسط منه والتام، رجعت إليّ بلادتي، وأخذت أستعجل الوصول إلى سوق البوابير قبل أن يرتفع ثمنها هي الأخرى فأضطر للعيش على المعلبات أو اجترار الأعشاب النيئة بانتظار أزمة أخرى.
للأمانة، ومن أجل ألاّ يعكر صفو مزاجي الصباحي همّ آخر، اتجهت إلى منطقة المدينة الجامعية بدلاً من الكورنيش فذاكرتي هناك تؤلمني. أمام سور الجامعة رصيف عريض يناسب رياضة المشي، كانت الساعة قاربت الحادية عشرة، لمحت من بعيد على الجهة المقابلة لسور الجامعة، حيث تتاخم المكتبات المتخصصة بالخدمات الجامعية بعضها بعضاً، حشداً كبيراً من الشباب والشابات، صحاني المشهد من هواجسي. معقول؟ قلت في نفسي. مظاهرة طلابية؟ انتابني شعور ملتبس، ازدادت نبضات قلبي حدة وتسارعاً، لم يكن التوجس من ارتفاع الهتافات بعد قليل، وهدير الرصاص في المقابل، هو ما جعل نبضي يتسارع، بل ربما إحساس مضمر ساهم في رفع الوتيرة، فألفيت نفسي أسرع في سيري لأصبح بجانب المحتشدين. كانوا طالبات وطلاباً ينتظرون أمام واجهات المكتبات ليشتروا الملخصات والمحاضرات التي يسجلها بعض الطلاب خلف الأساتذة، وتصور ثم تباع في المكتبات بتواطؤ خفي وعدالة في توزيع المردود، ثم تصبح هذه المحاضرات الملخصة هي مقررات الامتحان الذي سيقدمه الطالب الجامعي ويحصل بموجبه على ورقة الفيزا التي ستدخله ميدان الوظيفة الحلم، ليصبح فيما لو صحّت النبوءة عاطلاً عن الحلم والأمل.
ابتعدت عن الحشد مخلفة ورائي تلك الومضة الخاطفة المرتبكة، مسكونة بحزن قديم يتجدد، على أولئك الشباب المحتشدين كما يحتشد المواطنون أمام أكشاك البيع أو مراكز توزيع الأرز والسكر والزيوت أمام نوافذ صالات المؤسسات الاستهلاكية، رنت كلمة (الاستهلاكية) في وجداني بوقع له رنين الحقيقة المؤلمة. اكتشفت كم نحن رهائن للاستهلاك، المقسط منه والتام، رجعت إليّ بلادتي، وأخذت أستعجل الوصول إلى سوق البوابير قبل أن يرتفع ثمنها هي الأخرى فأضطر للعيش على المعلبات أو اجترار الأعشاب النيئة بانتظار أزمة أخرى.