قصة أول طائرة هبطت في دمشق وانتهت بفاجعة

تيسير أحمد- شام نيوز
أنهى فريق تلفزيوني تابع للقناة التركية الحكومية يقوده المخرج تورغاي بوستان عمليات تصوير الجزء السوري من فيلم وثائقي كبير يتحدث عن قصة الطيران في تركيا بمناسبة مرور مئة عام على تأسيس سلاح الجو في السلطنة العثمانية.
وبهذه المناسبة زار الفريق التلفزيوني أضرحة الطيارين الأتراك الأوائل قرب ضريح صلاح الدين الأيوبي شمالي الجامع الأموي، الذين سقطوا في جنوب بحيرة طبرية بين الجولان وفلسطين، وقبالة مدينة يافا في البحر الأبيض المتوسط. في قصة مؤثرة ما تزال تحتفظ بتفاصيلها كتب التاريخ والمذكرات الدمشقية.
وقد التقى فريق الفيلم التركي عدداً من الباحثين السوريين الذين أضاؤوا تفاصيل مهمة عن مسيرة هؤلاء الطيارين الشهداء، وحول أسباب سقوط طائرتيهم اللتين كانتا متجهتين من اسطنبول إلى القاهرة مطلع عام 1914م.
طيارة صادق وفتحي
وقد ذكر المؤرخ السوري الدكتور قتيبة الشهابي في كتابه «الطيران ورواده في التاريخ الإسلامي»، أن صادق وفتحي ونوري هم أول ثلاثة طيارين في الدولة العثمانية، ويروي الشهابي قصة وصول هؤلاء الطيارين إلى دمشق نقلاً عن مذكرات خالد العظم الذي حضر هبوط أول طائرة في المرج الأخضر مكان معرض دمشق الدولي القديم. وحسب العظم فإن أهل دمشق لم يصدقوا أول الأمر أن جسماً من الحديد يمكنه الطيران في السماء واعتبروا هذه المقولة كفراً من عمل الشيطان، حتى حل شهر ربيع الأول من سنة 1332 للهجرة الموافق لكانون الثاني 1914م حين هبطت أول طائرة عثمانية فوق أرض المرج الأخضر عند جنينة النعنع (الملعب البلدي) الذي حل في موضعه اليوم معرض دمشق الدولي القديم.
اليوز باشي فتحي بيك وأمامه طلعت باشا في الطائرة قبل إقلاعها من اسطنبول
كانت الطائرة ألمانية الصنع يرجع بناؤها إلى السنوات 1910 و1913م ويبلغ طولها سبعة أمتار وكذلك طول جناحيها ومزودة بمحرك لا تتجاوز قوته مائتي حصان بخاري وكانت حجرة الطيار ومعاونه مكشوفة بغير ساتر لها وكان اسمها بالتركية «معاونت ملت» ما معناه نصيرة الأمة، وعُرفت على ألسنة الناس باسم «طيارة صادق وفتحي».
بدأت هذه الطائرة رحلتها من الأستانة (إسطنبول) ثم حطت في حلب في شهر كانون الثاني 1914م.
فتحي بيك
وجاء في كتاب حلب في مائة عام (1850-1950 م ) – تأليف : محمد فؤاد عينتابي و نجوى عثمان أنه تراءى في سماء حلب لأول مرة طيارة وردت عليها من استانبول تحمل أستاذين في فن الطيران و هما شابان تركيان اسم أحدهما صادق و الآخر فتحي . و كان وصولهما إلى حلب قرب المغرب. و كانت مهّدت لطيارتهما مسافة من الأرض قرب السبيل تجاه جبل البختي و رش في هذه المسافة تراب أبيض، فنزلا بطيارتهما عليها بعد أن حلقا في الجو برهة. و قد خرج لاستقبالهما و التفرج عليهما كبراء الحكومة و العسكرية و أعيان البلدة و ألوف من أهلها. و لما استقرت الطيارة في الأرض علاها الهتاف و التصفيق، و ارتفعت الأصوات بالدعاء بالفوز و النصر، ثم إنهما أقاما في حلب بضعة أيام أقيمت لهما فيها المآدب الحافلة و نالا من الناس إكراماً زائداً، ثم نهضا من حلب قاصدين دمشق.
مائة ألف مشاهد
وفي دمشق احتشدت جموع غفيرة يُقدّر عددها بمئة ألف نسمة، في الفسحة التي كان يشغلها معرض دمشق الدولي. وان على الطائرة أن تحط على المرج الأخضر كيفما كان الأمر، حيث لا مدرج و لا برج و لا استعداد لمساعدتها على الهبوط. و كان الأولاد كلما شاهدوا نسراً في الجو صاحوا: وصلت... وصلت، فتشرئب الأعناق إلى السماء و تنطلق الضحكات.
و هكذا، حتى بدا في السماء جرم لا يشبه النسور، وصار يحوم فوق الساحة، فارتفعت إليه أصوات الزغاريد و الهتاف. و ما لبثت الطائرة أن حطّت في أول الساحة و تدرجت على الحشيش حتى توقفت في آخر المرجة، فهرع القوم و هجموا على الطائرة و رفعوا الطيارَين على الأكتاف و قادوهما إلى الصيوان، حيث كان الوالي و المشير و سائر المستقبلين الرسميين بانتظارهما.
أما الطائرة فلو لم تسرع شرذمة من الشرطة لتحيط بها و تمنع الناس من التقرب إليها، لما بقي منها أثر، بسبب الإقبال على أخذ قطعة منها على سبيل الذكرى.
استقبال حاشد للطائرة في دمشق
و بعد أن انتهى الاستقبال الرسمي، سار الموكب إلى دار العظم بسوق ساروجة، حيث كان مقرراً نزول الطيارَين ضيفين كريمين على تلك العائلة.
وفي اليوم الثاني طاف الضيفان أسواق المدينة و تفرجا على مباهجها، ثم ذهبا إلى دار عبد الرحمن باشا، فقضيا ليلتهما بعد وليمة أُعدِّت لهما هنالك حسبما يذكر الباحث حسام شالاتي.
و في صباح اليوم الثالث زحفت الجماهير إلى المرجة لتشاهد سفر الطائرة. و كان الحفل كحفل الاستقبال. و صعدت الطائرة ببطءٍ إلى السماء و توارت عن الأنظار و الناس يدعون لها بسلامة الوصول. إلا أن القدرة الإلهية لم تستمع إلى تلك الابتهالات، فسقطت الطائرة قرب بحيرة طبريا جنوبي قرية كفر حارب في الجولان، وأقيم نصب تذكاري لهما في قرية السمرة المجاورة لصعوبة الوصول إلى مكان استشهادهما..
النصب التذكاري للطيارين الأتراك في قرية السمرة جنوب بحيرة طبرية
وانتشر الخبر في دمشق انتشار النار في الهشيم، و تولت أسلاك البرق إذاعة الخبر إلى كافة أنحاء العالم. و في اليوم الثالث من الحادث استعدت المدينة لاستقبال الطيارَين جثتين هامدتين، لا قوة لهما و لا حول، بعد أن استقبلتهما نازلَين من أوج عليائهما في السماء.
احتشدت الجماهير أمام محطة القنوات (محطة الحجاز اليوم)، و أُنزل النعشان من القطار مكللين بالعلم التركي، تعلوه الزهور و الرياحين. و سارت الجنازة بين عشرات الألوف من الواقفين على الأرصفة و المحتشدين في الشبابيك و على سطوح المنازل. و كانت المآقي تذرف الدموع سخية و الوجوه يعلوها الحزن الشديد.
و كانت ولولة النساء تعلو أصوات المؤذنين و أرباب الشعائر الدينية. و توجهت الجنازة إلى جامع التكية، حيث أقيمت صلاة الجنازة. ثم سارت نحو سوق الحميدية، و منه إلى المثوى الأخير الذي اختير للشهيدين بجوار صلاح الدين الأيوبي.
و بعد أسبوع وصلت الطائرة الثانية. كان استقبالها هذه المرة في سهل المزة، و لم تُقم أية حفلة، حداداً على الفاجعة السابقة.
و غادرت الطائرة دمشق، و توجهت إلى مصر. إلا أن حظها و حظ قائديها لم يكن أحسن مما سبق، فوقعت في البحر أمام مدينة يافا، و نجا أحد القائدين و استشهد الآخر، فحُملَت جثته إلى دمشق و ووريت بجانب الرفيقين الأولين. ونكأت هذه الفاجعة الجرح الذي لم يكن قد التأم بعد.
أضرحة بجوار ضريح صلاح الدين
و من يزور ضريح السلطان صلاح الدين الأيوبي يلاحظَ وجود القبور الثلاثة إلى جانب الضريح المذكور. و يزور الزعماء الأتراك هذه القبور عند زيارة دمشق. وقد كتبت على القبور النصوص التالية:
الشاهدة اليمنى: هذا قبر راصد طيارة معاونت ملية الملازم الأول المدفعي و مرافق نظارة الحربية العثمانية الشهيد صادق بك. تاريخ السقوط 3 مارت 1330هج. تاريخ التجديد 1340هج.
الشاهدة الوسطى: هذا قبر الطيار الشهيد اليوزباشي العثماني فتحي بك، الذي أحرز رتبة الشهادة يوم سقوطه مع طيارته المسماة معاونت ملية في القرب من بحيرة طبريا. تاريخ سقوطه 3 مارت 1330هج. تاريخ التجديد 1340هج.
الشاهدة اليسرى: هذا قبر الطيار العثماني الشهيد الملازم الأول نوري بك، الذي نال رتبة الشهادة بسقوطه مع طيارته الشهيرة في يافا، ونقل جثمانه إلى دمشق. تاريخ السقوط 8 مارت 1330هج. تاريخ تجديده 1340هج.
و في أعلى كل شاهدة شعار الدولة العثمانية».
كما أقام العثمانيون نصباً تذكارياً لفتحي وصادق، ما يزال موجوداً حتى اليوم في جوار بلدة «السمرة» في مكان يقع بين التلال في الجهة الجنوبية الغربية من مزرعة «عز الدين» التابعة لقرية كفر حارب شرقي بحيرة «طبريا».
وقد نظم الشاعر أحمد شوقي قصيدة في رثاء الطيارين الأتراك جاء فيها:
انظر إلى الأقمار كيف تـــزولُ إلى وُجوهِ السَّعْدِ كيف تَحول
وإلى الجبالِ الشمِّ كيف يميلــها عادي الرّدى بإشارة ٍ فتميل
يا أيها الشهداءُ، لن ينسى لكــم فتحٌ أَغرُّ على السماءِ جميل
هلِعَت دِمشْقُ؛ وأَقبلَتْ في أَهلها ملهوفة ، لم تدر كيف تقول
مشت الشجونُ بها وعمَّ غياطها بينَ الجداولِ والعيونِ ذُبول
في كلِّ سهلٍ أَنة ٌ وَمناحــــــــة ٌ وبكلِّ حَزْنٍ رنَّة ٌ وعويل
وكأَنما نُعِيَتْ أُميَّة ُ كلُّــــــــــها للمسجد الأُمَوِيِّ، فهْوَ طُلول