كلام في الإعلام

بعد ان زلزلت مصر زلزالها، وقال الناس ما شاؤوا في ما عليها وما لها، فلا بد من الحديث في بعض ما قيل عن الإعلام ودوره، وان كان شباب مصر قد أكدوا للقاصي والداني عودة الروح للشعب في وقت إعتقد فيه الكثيرون ان السكوت من ذهب خالص، ولم يثقوا بأنه إذا الشعب يوما أراد الحياة فهو قادر على سحق الظلم والظالمين. وهو نفس الظلم الذي جعل العربي يكره نفسه ويلعن زمانه ويعيش بدون آمل، وآمن كثيرون من أن تغيير الحال من المحال. وهو ما وضع له هؤلاء الشباب نهاية ليولي إلى غير رجعة .
"كراهية الذات تمنع التغيير"، هذه العبارة الحكيمة للبرفسور أبن مصر صبري الشبرواي وقالها للقناة الأولى في التلفزيون المصري الرسمي قبل أربعة أيام من سقوط نظام الرئيس حسني مبارك. وقد كان في حديثه من القناة الرسمية مؤشرا على التغيير الحاصل في كل مناحي الحياة بما فيها الإعلام ايضا.
ولأن شباب مصر وشرفاءها يحبون ذاتهم لكنهم يحبون بلدهم أكثر إستطاعوا تحقيق التغيير. لذلك فمن الاجحاف بمكان تحميل وسائل الإعلام وتحديدا الفضائيات وفي مقدمتها الجزيرة المسؤولية عن تفجير ثورة هذا الشعب الاصيل والعملاق ضد الفساد والاستبداد، وهي ثورة قامت من أجل الحرية والعدل. وما جرى في مصر وقبلها في تونس وما يجري في بلدان عربية أخرى هو نتاج عملية مجتمعية تواصلت وتفاعلت على مدى سنوات طويلة من الظلم وغياب العدالة والحرية.
لذلك فإن تحميل وسائل الإعلام المسؤولية فيه ظلم لهذا الشباب الجميل الذي فجر هذا الزلزال، لكن ما من شك ان الفضائيات وفي مقدمتها الجزيرة لعبت دوراً في عودة الوعي للمواطن العربي على مدار العقد الأخيرمن ناحية، ومن الناحية الاخرى كانت مساهمتها واضحة في حماية الثورة من بطش النظام لا سيما في مهدها. شتان بين فضائية ظلت تنقل صور المحتجين رغم إغلاق مكاتبها وسحب إعتماد مراسليها وبين أخرى عرضت صور نهر النيل الجميل وكأن شيئا لم يحصل، وشتان بين قناة نقلت الأخبار في الاتجاهين وبين أخرى كانت تغطيتها أحادية الاتجاه .
لم تكن هناك وسيلة إعلام قادرة بمفردها على نقل صورة كاملة للاحداث في مصر. وهو ما جعل المتابع يتنقل ويتابع من خلال ثلاث قنوات متباينة التوجه للاقتراب من الحقيقة. ربما يعود السبب إلى عظمة هذه الثورة التي ستظل علامة فارقة في تاريخ البشرية جمعاء، أو ربما لهوامش الحرية المتفاوتة التي تتمتع بها كل فضائية بحكم موقعها وراعيها وتوجهاتها وما تعايشه من ضغوط، وهذا لم يكن مقصوراً على الصحافة المصرية فقط وإنما كان من نصيب كافة وسائل الإعلام في عالمنا العربي وخارجه، مثلما كان من نصيب الكثير من الأنظمة السياسية والأحزاب التي التزمت الصمت في موقف أقل ما يمكن أن يقال عنه انه انتهازي .
ما من شك ان الفضائيات ساهمت عندما كسرت "التابو" واطاحت بالاصنام التي ارادت الأنظمة من المواطنين تقديسها، فحرمت عليهم مجرد التفكير بها، مثل أخبار الفساد وإنتهاك حقوق الإنسان والمرأة والظلم وسجناء الرأي والمعتقلين السياسيين وكرامة المواطن وحقوقه على حاكميه. لكن يظل الفضل الأول والأخير للشعب وخاصة لهؤلاء الشباب الواعين المسؤولين الذين أطلقوا العنان وكسروا حاجز الخوف من الحاكم، وجعلوا وسائل الإعلام والصحافة تلهث خلفهم تماما كما الحال بالنسبة للاحزاب والحركات السياسية التقليدية من موالية ومعارضة، فقد جرفت الثورة الكاملة كما أطلق عليها المفكر الكبير محمد حسنين هيكل، لقد جرفت في طريقها كل شيئ بما فيه الإعلام الرسمي، كما أنها أسقطت ليس النظام السياسي الذي يمثله الرئيس حسني مبارك وحسب وإنما ايضا فنانين وممثلين وكتاب وادباء ومثقفين وصحفيين حابوا النظام وحاول بعضهم المناورة ليكسب "الدنيا والاخرة" على أساس (أسيادكم في الجاهلية أسيادكم في الإسلام)، لكن هذه الالآعيب كانت مفضوحة واطاحت بأصحابها في نهاية المطاف .
لقد دخلت ثورة الشعب في مصر مرحلة النضج، بفضل عناد الرئيس مبارك وهذا من سخريات القدر، وذلك جراء رفضه التنحي والتلكؤ في تلبية مطالب الثائرين. لانه لو كان قد قبل المطالب ورحل منذ اليوم الأول للثورة لكان ذلك كفيلا في إعادة المحتجين إلى منازلهم، راضين بما حققوا من إنجاز، ولأدى ذلك إلى وأد الثورة قبل نضوجها وربما حرفها عن هدفها بتحقيق الحرية والكرامة والعدالة، ولاستطاع بعض المتربصين بها سرقتها .
لقد قال هذا الجيل ما خشيت أن تقوله الأجيال التي سبقته، وتصرفت على غرار ما قاله الشاعر الكبير نزار القباني "خذي حبوب النوم سيدتي ونامي....فقد تعب الكلام من الكلام". فقد أطبق اليأس على تلك الأجيال وتحكم بها الخوف من الحاكم، علما ان العنوان كان على الجدار والأصوات كانت مدوية لكن رأس النظام لم يسمعها. وخلافا لها حقق الجيل الشاب مقولة الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب "لا خير فيكم أذا لم تقولوها، ولا خير فينا اذا لم نسمعها". فكان الخير في هذا الجيل الجديد الذي قالها ومن بعده الشعب ولم يكن بالنظام ورأسه الذي لم يسمعها. فلماذا يصر البعض إذن على سلب الشعب المصري تميزه وحقه وفطنته وذكاءه، ويحاول أن يقزم ثورته إلى مستوى متدن وكانها مجرد نتاج تحريض اعلامي. وقد كان هذا البعض قد تبنى خطاب النظام وأبواقه التي اتهمت المحتجين بأنهم عملاء تحركهم أيادي خارجية تستهدف مصلحة الوطن .
يؤشر هذا إلى أن من يسعى لذلك إما من أصحاب النظام الفاسد الموالي للغرب ومعه إسرائيل، أو من الناطقين بأٍسميهما. من خبراء للشؤون العربية ومحللين صحفيين وما شابه من أوصاف والقاب.
فعلى سبيل المثال لا الحصر قضى بعض المراسلين والمحللين للشؤون العربية في وسائل إعلام إسرائيلية الأيام الثمانية عشرة للثورة المصرية ينقلون عن الجزيرة ما تقوله وتنقله، ثم يتهمونها بالتحريض والمبالغة والكذب، إذا كان الامر كذلك يا عتاة الصحافة الإسرائيلية، فلماذا إذن تنقلون ذلك، أليس ناقل الكفر بكافر؟. أم ان ذلك نتاج الحسد والحقد الأسود الممرغ بالإستعلاء العنصري. علما ان مراسلين لوسائل إعلام إسرائيلية وغربية عملوا من داخل الميدان في مصر دون أن يتعرض أحد لهم، وهو ما يجب أن يكون. بينما كان زملاؤهم من وسائل الإعلام العربية عرضة للملاحقة والتنكيل من قبل نفس السلطات وزبانيتها، وهو ما لا يجب أن يكون .
طال التغيير في مصر وسائل الإعلام الرسمية أيضا، ويمكن الجزم من المتابعة أنها تأثرت به قبل غيرها من أجهزة الدولة على نحو يبشر بأن المستقبل سيكون للصحافة المصرية وذلك لطبيعة الثورة التي شهدتها مصر، وأيضا لان ما يحصل في مصر له إنعكاساته وتداعياته على مجمل الحالة العربية . وما جرى في مصر، هي ثورة التغيير الشامل في كافة مناح حياة المجتمع.
فما حصل أن هذا الشباب أحسن إستخدام أدوات التواصل في هذا العصر، مما أتاح له تخطي قيود السلطان وصولجانه وبغاله، والفرق بين الشباب الثائر والسلطة كان بقدر المسافة بين الانترنت والبغال التي إستخدمها أعوان النظام لقمع المحتجين في ميدان التحرير. لقد تعرف هذا الشباب على العالم وتعرف على قدراته وقوته الكامنة. إلى أن زلزلت مصر زلزالها فانتصب العالم مندهشا ومعجبا وهو ينظر إلى المارد المصري يخرج من القمقم ويشهد تشكل التاريخ على أرض الكنانة. وربما تكون بداية عصر جديد ليس لمصر والعرب وحسب وإنما لإنحاء شتى في هذا العالم طالما أذاقها الحكام والمستعمرون الظلم والعذاب .
لقد تواصل هذا الشباب الجميل فيما بينه ووصل إلى بعضه البعض من خلال وسائل الإعلام المجتمعي الحديثة المتاحة بكافة أشكالها ومسمياتها من خلال الانترنت. وصل وتواصل مع بعضه البعض بعد أن ضاقت البلاد باهلها بسبب فساد النظام الحاكم وظلمه. وليس لإن وسيلة إعلام بعينها حرضته كما يحلوا للبعض لا سيما معارضو الثورة الترويج ، أو كما طبلت وزمرت وسائل إعلام اسرائيلية وأمريكية .
وذكر إن نفعت الذكرى، عندما إندلعت ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني ٢٠١١ كانت الجزيرة غارقة لليوم الثالث في تغطية الوثائق المتسربة عن أسرار المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية. كان الخامس والعشرين من كانون ثاني الماضي هو اليوم الثالث لكشف هذه الوثائق، وكانت المظاهرات قد إنطلقت في القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية وبور سعيد والسويس، ولم تخصص الجزيرة سوى ثلاث دقائق للموضوع المصري في نشرة الحصاد، حيث قطعت تغطية الوثائق لثلاث دقائق، وهكذا فعلت في اليوم الرابع وأيضا في يوم الخميس حيث كانت تبث ندوة من ساعتين حول نفس الموضوع ولم تنتقل هذه القناة الرائدة في العالم العربي والأكثر عرضة للإتهام إلى البث المباشر من القاهرة إلا في يوم الجمعة وكانت الثورة تسجل ذروة لافتة. يؤكد هذا ان تغطية الجزيرة المكثفة لمسألة الوثائق لم تحرض ولم تحرك الشارع الفلسطيني ضد سلطته، كما أن تأخرالجزيرة وتلكؤها في التغطية المكثفة لاندلاع الثورة المصرية شأنها في ذلك شأن باقي الفضائيات، لم يحد من تسارع المظاهرات المصرية وحشد المزيد من المواطنين فيها. أضف إلى هذا أن ثورة الشعب التونسي ضد إستبداد سلطته وفسادها التفتت اليها وسائل الإعلام متأخرة لكنها منحتها الزخم في الأيام الثلاثة الأخيرة التي سبقت هروب الرئيس بن علي وأعوانه من البلاد. وللعلم فان الجزيرة كانت ممنوعة من العمل في بلاد نظام بن علي. إن إلقاء المسؤولية على وسيلة إعلام بعينها فيه الكثير من التبسيط لهذا الحدث العظيم، وهو تبسيط للأمور من جانب الذين يرفضون قراءة الواقع العربي على حقيقته، وقد امتهنوا تزييف الحقائق لخشيتهم منها .
ما فعلته الجزيرة في الأيام الأولى من نقل متواصل للاحتجاجات في مصر ، هو أيضا ما قامت به الكثير من القنوات الأخرى وبينها القنوات المصرية الرسمية بعد أن تنحى الرئيس مبارك وإنهارت سلطته. ويمكن القول أن التغيير تجسد في أولى ملامحه عندما ذهبت القناة المصرية الأولى إلى حد نشر قائمة بأسماء المسؤولين المتهمين بالفساد ونهب أم الدنيا في اليوم التالي لخلع الرئيس مبارك .
قد تتباين قراءة الدور الذي لعبته الجزيرة بما لها وبما عليها، فقد يرى البعض انها كانت وسيلة إعلام نقلت الحقيقة للعالم حول ما يجري في ميدان التحرير رغم ما تعرضت له من ملاحقة وإغلاق، وقد يرى آخرون أن الجزيرة تصرفت كجزء من حركة تحرر وكانت صوت الثائرين وروجت لرأيهم. لكن بين القراءتين لا يستطيع احد سلبها إسهامها في حماية المحتجين من بطش المستبدين، على الأقل في الأيام الأولى. ولذلك تدفع بعض الأنظمة الباقية في العالم العربي بأنصارها إلى التظاهر ضد الجزيرة في محاولة لكبح الاحتجاجات الشعبية ومنعها من التحول إلى ثورة عارمة، لكن يبدو ان القطار قد فات الكثير من هذه الانظمة فعلا. والأفضل لو أنها تبحث عن مواطن الخطأ والخطر الذي سببته سياساتها على مدار عقود، بدل أن تلاحق وسيلة إعلامية، ظنا منها أن حجب الحقيقة عن الناس سيمد في عمرها على كرسي القيادة. في محاولة تبدو يائسة لصرف أنظار الموالين لها عن الحقيقة .
أسم اللعبة إذن هو "الحقيقة"، وحول هذه الحقيقة تتناطح الرؤوس. فالسلطات لا تقر بحق الجمهور بالمعرفة وتريد حجب الحقيقة عنه وفي ذلك إستهتار به وإستهانة بعقله، وتريد من هذا المواطن أن يرى ويسمع ويقرأ ويكتب ويفكر بما تمليه عليه، وكأن عيناه وأذناه وعقله ملكاً لها، تمنحه لمن تشاء وتحرم منه من تشاء، في وقت أثبت فيه أهل مصر وتونس انهم أكثر ذكاء ووطنية ووعياً ودهاء وطهارة من الحكام الذين إستبدوا وفسدوا وأفسدوا في الأرض، وواجب الصحافة هنا هو كشف الحقيقة عملا بمبدأ حرية التعبير وفي ذلك احتراما لذكاء المواطن. وهذا سر التوتر المزمن في العلاقة بين الإعلام والانظمة السياسية .
وليد العمري - القدس