كنز من وهم!!!

 

 

خيري الذهبي - تشرين

 

 

 

لاشك أنّ السأم هو مادفعني إلى تلك الغرفة العلوية في بيتنا القديم عمّا أبحث؟ لا أعرف. ولكن البيت وقد خلا لي كان فرصة للاكتشاف, اكتشاف ماذا؟ لا أعرف أيضاً ولكنه سأم الصبي في بيت كبير خلا من الكبار, وكانت الغرفة العلوية ممنوعة عليّ أصلاً, فهي غرفة كانت لأخ غير شقيق لي,
 وها قد مضى على هجره البيت ما يقارب السنة والغرفة مازالت تسمى باسمه.

 


بعد سنين, وكانت أمي تتحدث عن هذا الأخ الذي لم يكن ابنها, قالت: لست أدري من دلّه على سوق البورصة ولكنه فجأة صار زبوناً مداوماً عليها حتى باع ميراثه من أمه لخاله, وحمل المال إلى سوق البورصة يتاجر بالعملات, وتنهدت: فتحت مرة الباب عليه ظانة أنه ليس في البيت لأفاجأ بصينية نحاسية, صينية السفرة وقد تكوّم عليها كوم من الليرات الذهبية وكان يعدها , وتنهدت ثانية: يبدو أنّ حظ البورصة كان قد ضحك له, ثم أضافت: حين رأيت الرعب والدهشة على وجهه انسحبت, ولم أحدث أباك عن ابنه الثري الجديد, ولكنه حين اشترى الموتوسيكل الأول في الحي وأخذ يبرطع فيه كالشرطة العسكرية أيام فرنسا عرف أبوه أنّ الحظ قد ابتسم له, فقال لأمي: الله يوفقه, ربما بحثت له عن زوجة يستقر معها ويتوقف عن هذه السهرات الطويلة لا نعرف أين يسهرها؟

 


فجأة علا الشرود, كما أضافت أمي وجه أخي غير الشقيق, واصفر وجهه وأهمل ثيابه التي اعتدنا أناقتها المبالغ فيها, فتسللت مرة إلى غرفته وقد عرفت أنه خرج من البيت بحثت عن الصينية فوجدتها, ولكن خالية بحثت عن كنزه السري, ولكني لم أجد ليرة واحدة, وحين حدثت الأب عما حدث اكفهرّ وجهه, قال: لابد أن الضائقة التي ألّمت قد قضت على أرباحه الكثيرة.. بعد أيام اختفى الأخ وعرفنا من أصدقائه أنه قد سافر إلى بيروت يبحث عن عمل, وكانت بيروت مقصد من يريد أن يعمل العمل الذي يتاح له دون خجل, ففي المدينة وبين من يعرفه ويعرف أهله لا يمكن له أن ينحط في شروط العمل, أما في الغربة فكل شيء ممكن وجائز.

 


أرسل الأب عدة رسل يبحثون عنه ويطلبون إليه العودة, ففي حضن الأهل والبيت ما يكفي الجميع, ولكن أحداً لم يلقه ولم يعرف طريقه, و.. ظلت الغرفة تحمل اسمه حتى اخترقت عزلتها, ولكني لم أجد فيها مايغري فضولي, فكل شيء مرتب وعادي, ولكني حين تسلقت إلى السقيفة المهجورة والتي تودع العائلة فيها كل مالا تريد استعماله حالياً ويظنون أنّ يوماً سيأتي سيحتاجون فيه إلى هذا الشيء أو ذاك,و... دخلت في بازار السقيفة, مواعين من نحاس صدىء لم يبيض منذ سنين, وحلل كبيرة مسودة من هُباب الحطب, وجرار مهجورة كانت رائحة الزيت القديم لاتزال عالقة بها, وجرار نتنة الرائحة عرفت أنها كانت مستودعاً للقاورمة فيما مضى, وفجأة رأيت ما سأظل العمر أندم على أني لم أخفه للزمان, وأحتفظ به, كان ما وجدت سيفاً قديماً قد تثلم في هذا الجانب, أو ذاك وترساً من جلد كانا مربوطين إلى بعضهما بعضاً بخرقة قديمة, وكأن من ربطهما كان يخاف هرب واحد منهما وضياعه عن الآخر.

 


أنزلتهما إلى الباحة, وفككت رباطهما فتحررا, وأخذت أبارز الريح في بطولة مثل زورو, والكابتين كيد القرصان بطلي أفلام تلك الفترة بارزت الهواء حتى تعبت فوضعت السيف جانباً, وربما كنت متعباً لأني نمت, ولم أفق إلا على أمي تحاول حملي إلى غرفة داخلية, بحثت عن السيف والترس, فلم أجدهما, فطلبتهما وألححت, ولكن الوالدين أقنعاني بأنهما تراث عائلي, وليسا للعبث وقد أخفياهما, وربما أعطوني إياهما حين أكبر.
 

لم أستطع مقاومة شهوة استعادة السيف, فقد كان زورو يتحداني, والكابتن كيد يستعرض سيفه أمامي, و.. صعدت إلى السقيفة أبحث عن السيف والترس, ولكني طبعاً لم أجدهما ولكني سأجد ما ستقول عنه أمي إنه كنز أخي الذي مضى إلى بيروت.

 


كان صندوقاً خشبياً مما يستخدم للخضار مملوءاً بالأوراق النقدية المغطاة بالغبار والكراكيب القديمة, وحين تراه أمي ستفاجأ به كما فوجئت وستخفيه عن عيون الجميع طالبة مني ألا أخبر أحداً عنه مؤقتاً, ثم ستصحبني إلى سوق الصيرفية, قالت إنها تريد صرف بعض من هذه الأوراق المالية المطبوع عليها أحرف بلغات غربية.


و.. ستعطي الصيرفي ورقة منها فينظر إليها في سخرية, ثم يعيدها إليها: الله يرحمهم وتسأل: لماذا؟ فيقول هذه روبلات روسية من أيام السفر برلك لجأ إليها كثيرون آمنو بأن الدولة العثمانية إلى زوال, فرأوا إنقاذ ثرواتهم بتحويلها إلى عملة قوية والأقوى في ذلك الحين كان الروبل الروسي والمارك النمساوي ولم يعرفوا أن البقاء لله وحده ثم أشار إليّ في عطف: أعطها للولد يلعب بها.


في البيت, وحين أعطت الصندوق لأبي كاد يقع على ظهره من الضحك, وأشار إليّ بأصبعه, أنت من وجدها هه! كان جدك الله يرحمه يظن أنه سيعبر من مأزق السفر برلك بالاحتماء ببعض العملات وقلب الصندوق لتظهر رزم من عملات بصور أخرى ولغة أخرى فأضاف: والمارك النمساوي, ولكن كما ترى خسر وخسرنا كل شيء خذها بابا خذها, ولكن لا تضيعها, وأضاف في نغمة حزينة, فمن يدري, ربما عادت إليها قيمتها يوماً.