كيف ننقذ الثورة؟

 

تخيل أنك طالب تسكن مع زملاء لك في شقة مفروشة. أنتم تعيشون معا وتتقاسمون ايجار الشقة لكنكم مختلفون. كل واحد فيكم له طباع واحتياجات. هناك مثلا من يستذكر طوال الليل وهناك من يصحو وينام مبكرا وهناك من يستذكر على صوت موسيقى صاخبة. كما أن هناك واجبات مشتركة لا بد من توزيعها عليكم بطريقة عادلة. من الذي يطبخ الطعام ومن الذي يغسل الصحون وكيف يتم توزيع فواتير الكهرباء والتليفون.

لا بد اذاً من التوصل الى نظام عادل يوفق بين حقوقكم وواجباتكم لتلتزموا به جميعا.. هل يعقل أن ينفرد أحدكم بوضع هذا النظام وفرضه عليكم؟ لا، بالطبع. الطريقة الوحيدة الصحيحة لوضع هذا النظام أن تجلسوا جميعا وتتفقوا عليه ثم تلتزمون بتطبيقه.

هذا المثل البسيط يوضح لنا معنى الدستور وفائدته. نحن أفراد الشعب، تماما مثل الطلبة مستأجري الشقة، يجب أن نجلس جميعا لنكتب الدستور بأنفسنا.

الدستور كلمة فارسية تعنى الأساس. الدستور هو: مجموعة القواعد القانونية التي تبين وضع الدولة و تنظم السلطات فيها من حيث التكوين والاختصاص وتحديد العلاقة بينها بالإضافة إلى تقرير ما للفرد من حقوق وواجبات.

في كل الدنيا، عندما يريد الشعب أن يكتب الدستور، يفعل تماما مثل الطلبة الذين يسكنون معا. كل طائفة أو جماعة في المجتمع تنتخب ممثلين لها يشكلون الجمعية التأسيسية التى تقترح موادا للدستور يتم مناقشتها على الملأ ثم تطرح على الشعب للاستفتاء العام.

لا يمكن اذن أن نقصر حق كتابة الدستور على الحزب الذي يفوز في الانتخابات: أولا، لأن الهيئة التأسيسة للدستور لها مواصفات مختلفة عن الهيئة البرلمانية التشريعية. فنحن قد ننتخب عضوا في الهيئة التأسيسة للدستور، لأنه يعبر عن طائفة ما في المجتمع، أو لأنه يمتلك خبرة قانونية تمكنه من كتابة الدستور، لكن نفس هذا الشخص، قد لا يصلح نائبا في البرلمان لسنه المتقدمة أو لعجزه عن التواصل مع الجمهور..

ثانيا: لأننا عندما نعهد الى البرلمان بكتابة الدستور، نقع في تضارب للمصالح. لأن الدستور هو الذي يحدد صلاحيات مجلس الشعب، فلا يمكن أن نطلب من أعضاء مجلس الشعب أن يحددوا صلاحياتهم بأنفسهم.

فاذا كان نصف مجلس الشعب من العمال والفلاحين لا يمكن أن نتخيل أنهم سيوافقون في الدستور الجديد على الغاء شرط أن يكون نصف أعضاء البرلمان من العمال والفلاحين. ان الأغلبية السياسية عندما تفوز بالانتخابات من حقها أن تفرض برنامجها السياسي على الأقلية.

لو كانت أغلبية البرلمان من الاشتراكيين مثلا فمن حق الحكومة التي يشكلونها أن تفرض برنامجا اشتراكيا. لكن هذه الأغلبية ذاتها ليس من حقها أن تكتب الدستور وفقا لارادتها، بمعزل عن مصالح الآخرين، لأن الدستور يجب ان يعبر عن كل أطياف الشعب، حتى الذين خسروا الانتخابات، وحتى الذين لم يشتركوا فيها أساسا.

في مصر قطاعات كثيرة متنوعة في المجتمع. المهنيون والعمال والفلاحون والصعايدة والنوبيون والأقباط.. كل هؤلاء، لا بد للدستور أن يعبر عن مصالحهم. لو كان في مصر أربعة أو خمسة مواطنين من الهندوس أو البوذيين فان الدستور يجب أن يحترم حقوقهم واحتياجاتهم.

هذا هو المفهوم المعروف المستقر للدستور، وبعد نجاح الثورة المصرية في الاطاحة بمبارك اتفق فقهاء القانون الدستوري على أن الدستور القديم سقط بسقوط مبارك وطالبوا بانتخاب جمعية تأسيسية للدستور، لكن المجلس العسكري رفض ارادة الثورة وقرر تنفيذ تعديلات على الدستور القديم كان مبارك قد أعلن عنها في لحظاته الاخيرة ورفضتها الثورة المصرية.

قام المجلس العسكري بتشكيل لجنة للتعديلات الدستورية من الغريب أنها لم تضم بين أعضائها الا أستاذا واحدا للقانون الدستوري، هو الدكتور عاطف البنا، أما بقية الأعضاء، مع احترامنا لهم، فهم رجال قانون، ليس لهم أدنى خبرة بالقانون الدستوري.

كما حملت لجنة التعديلات لونين سياسيين فقط. نصف أعضائها كانوا محسوبين على نظام مبارك، والنصف الأخر من أعضاء الاخوان المسلمين أو المتعاطفين معهم.

تمت التعديلات، وتم الاستفتاء عليها، وكان من الواضح أن المجلس العسكري يريد أن يوافق الشعب عليها. هنا ساند الاخوان المسلمون المجلس العسكري، وبعد أن كانوا يطالبون مثل الثوار جميعا بدستور جديد، انقلبوا على رأيهم ووافقوا على التعديلات، ونزلوا بكل قوتهم من أجل تنفيذ رغبة المجلس العسكري.

لجأ الاخوان الى أسلحة انتخابية ممنوعة أخلاقيا، فقد أشاعوا بين البسطاء بأن رفض التعديلات والمطالبة بدستور جديد سيؤدى الى الغاء المادة الثانية التي تنص على اسلامية الدولة، بالرغم من أن هذه المادة لم تطرح أساساً للتعديلات. كانت النتيجة الموافقة على التعديلات وبالرغم من تجاوزات التيار الديني في الاستفتاء، الا أن الواجب الأخلاقي والوطني كان يحتم على الجميع احترام نتيجة الاستفتاء.. المفاجأة أن المجلس العسكري هو الذي لم يحترم نتيجة الاستفتاء وانقلب عليها. بينما تم الاستفتاء على تسعة مواد فقط تم ذكرهم بأرقامهم في دستور 71 القديم فان المجلس العسكري قد فاجأ الجميع باعلان دستور مؤقت من 63 مادة، لم يستشر المصريين فيهم.

هل سألنا المجلس اذا كنا نريد الغاء مجلس الشورى أم الابقاء عليه؟
هل سألنا المجلس اذا كنا نريد الاحتفاظ بنسبة 50 % عمالا وفلاحين بين اعضاء مجلس الشعب؟
هل سألنا المجلس ان كنا نريد نظاما رئاسيا أم برلمانيا؟

ان المجلس العسكري باعلانه الدستور المؤقت قد ألغى عمليا وقانونيا نتيجة الاستفتاء، وفرض على الشعب المصري شكل النظام السياسي بدون الرجوع اليه.. كان انقلاب المجلس العسكري على نتيجة الاستفتاء واضحا لكل ذي عينين، ومع ذلك، فان الاخوان ومن خلفهم السلفيون تجاهلوا انقلاب المجلس العسكري على ارادة الشعب، وقرروا أن يساندوا المجلس العسكري بأي طريقة وأي ثمن، ليضمنوا الوصول الى الحكم.

المدهش هنا أن الاخوان المسلمين يكررون مع المجلس العسكري نفس الأخطاء التي ارتكبوها مع كل من حكم مصر: الملك فاروق واسماعيل صدقي جلاد الشعب وجمال عبد الناصر وانور السادات..

في كل مرة يشترك الاخوان في الحركة الوطنية، ثم في لحظة ما، ينشقون عن الصف الوطني، ويتقربون الى السلطة التي تستعملهم دائما لاجهاض المعارضة الوطنية، ثم بعد أن تستنفد غرضها من الاخوان تلقي بهم جانبا أو تنقلب عليهم وتنكل بهم....

هكذا تم وضع العربة أمام الحصان وتم دفع مصر كلها في عكس الاتجاه الصحيح. تحول الاخوان الى ما يشبه الجناح السياسي للمجلس العسكري يمتدحونه ليل نهار ويتصدون بشراسة لكل من يوجه نقدا لقراراته. ووصل الأمر الى أن يهتف السلفيون «يا مشير أنت الأمير» بل ان أحد رموز الاخوان، وصف أعضاء المجلس العسكري، بأنهم قرة الأعين، ووصف الوطنيين الذين يطالبون بالدستور أولا بأنهم شياطين الانس.

مع تصاعد ظهور المتطرفين وتعاقب اعتداءاتهم على الاقباط والكنائس والاضرحة تزايد قلق المصريين (مسلمين واقباطا) من الخلل الدستوري الجسيم الذي أوقعنا فيه المجلس العسكري.. فالدستور الذي يفترض أن يعبر عن الشعب كله، بات من المحتمل أن ينفرد بكتابته متطرفون يعتبرون أن الموسيقى حرام، وأن الآثار الفرعونية العظيمة مجرد أصنام يجب تغطيتها بالشمع حتى لا يعبدها المصريون.

هنا انتبه المجلس العسكري لخطورة الوضع وبدأ الدعوة الى ما يسمى بالمبادىء الحاكمة للدستور، حتى يجنب مصر كارثة دستور يحيلها الى أفغانستان أو الصومال.. غضب الاخوان والسلفيون ورفضوا المبادئ الدستورية لأنهم يريدون ببساطة أن ينفردوا بكتابة الدستور وفقا لأفكارهم وليس طبقا لمصلحة المجتمع..

آخر محاولات المجلس العسكري لتدارك الورطة الدستورية التي أوقعنا فيها، كانت الوثيقة التي قدمها الدكتور على السلمي نائب رئيس الوزراء.. احتوت هذه الوثيقة على مبادىء حاكمة للدستور، تضمن مدنية الدولة المصرية كما أنها نصت لأول مرة على الطريقة الصحيحة لتشكيل اللجنة التأسيسة للدستور، وذلك بالانتخاب من قطاعات المجتمع المختلفة.

لكن الوثيقة مع ذلك جاءت مشوهة وفاسدة، حيث ان طريقة تكوين اللجنة التأسيسية وضعتها بالكامل تحت رحمة المجلس العسكري الذي يملك السلطة المطلقة على الدستور والذين يكتبونه. الأخطر من ذلك، ان الوثيقة جعلت من القوات المسلحة دولة منفصلة عن الدولة المصرية، لا يحق للشعب أن يحاسبها أو حتى يعرف ماذا يحدث فيها..

وهكذا، مقابل خطوة واحدة الى الأمام، أعادتنا وثيقة السلمي عشر خطوات الى الوراء. الوثيقة تضع الشعب المصري أمام اختيارين كلاهما مر: اما أن نحافظ على الدولة المدنية لكننا مقابل ذلك يجب ان نعطى الجيش مكانة عليا محصنة تجعله لا يسأل عن أفعاله.. أما اذا رفضنا وصاية الجيش على الدولة فعلينا عندئذ أن نواجه خطر سقوط مصر في قبضة المتطرفين.

الاختيار واضح: الدولة المدنية ووصاية الجيش، أم الحرية وخطر المتطرفين. نفس منطق مبارك الذي كان يردد «أنا أو التطرف والفوضى». ان وثيقة السلمي تأتي كضربة جديدة للثورة التي تمر بأزمة حقيقية: فقد تم انهاك الشعب المصري على مدى تسع شهور بالانفلات الأمني المقصود والفوضى والأزمات المفتعلة ونقص المواد الغذائية وارتفاع الأسعار حتى تحولت روح التفاؤل والثقة بالنفس التي عمت المصريين عقب تنحي مبارك الى حالة محزنة من الاحباط والقلق من المستقبل..

كيف ننقذ الثورة؟

أولا: يجب انهاء الصراع بين الاسلاميين والليبراليين وتوحيد الصف فورا بين كل القوى الثورية.

ثانيا: يجب انتخاب هيئة لتمثيل الثورة تشمل محافظات مصر كلها، تضم جميع الأطياف وتمتلك القدرة على حشد الملايين في الشوارع حتى تكون قادرة على الضغط على المجلس العسكري من أجل تنفيذ أهداف الثورة.

ثالثا: يجب على القوى الثورية أن تقدم البديل لوثيقة السلمي.. أتمنى أن نقبل جميعا وثيقة الأزهر كأساس للدولة الديموقراطية، وفي نفس الوقت، نتفق على طريقة انتخاب لجنة تأسيسة للدستور، لا تتجاهل أعضاء البرلمان وتضمن أيضا التمثيل الكامل لكل طوائف المجتمع

رابعا: يجب علينا العودة الى الشوارع في مليونيات تثبت للمجلس العسكري ان الثورة لازالت في قلوب ملايين المصريين الذين صنعوها بدمائهم والذين لن يسمحوا أبدا باجهاضها.

.. ان مصر الآن تتجاذبها قوتان: النظام القديم الذي يريد ان يعيدها الى الوراء والثورة التي تريد ان تدفع بها الى المستقبل. سوف تنتصر الثورة حتما.. باذن الله.

الديموقراطية هي الحل