لا يدوم اغترابي...

هيام حموي . البعث
في ربيع عام 2005، دُعي الفرنسيون للمشاركة في استفتاء على مشروع "المعاهدة الدستورية الأوروبية"، وكان الجدل على أشدّه بين معارضي المشروع ممن لا يريدون التفريط باستقلالهم الوطني، وبين المبهورين بالعولمة على الطريقة الأميركية أو "المغرّر" بهم باسم الوحدة الأوروبيّة التي كانت تبدو، بعد حربين عالميتين جائرتين، حلماً بعيد المنال.
فيما كنت، منذ أكثر من 35 عاماً "أرفل" في أجواء الديموقراطية الفرنسيّة، لم أكن أسمح لنفسي بالتدخل في شؤون الفرنسيين واستفتاءاتهم وانتخاباتهم، بالرغم من حصولي على جنسيّتهم المريحة والعملية من زمن بعيد...
كنت أشعر بأن ارتباط مشاعري الوطنية مشدود رغماً عني إلى الفل والياسمين والورد، الجوري والبلدي، ومحكوم بالزنبق الشامي والفستق الحلبي، بالسمن الحموي وحلاوة الجبن الحمصيّة وحتى الكنافة النابلسيّة (أوَلا تنتمي نابلس إلى بلاد الشام؟)، إلى آخر لائحة الأطايب التي كانت تثير فينا، كمغتربين، الحنين الحسّي الذي ينبع من المعدة ثم يتغلغل باتجاه خلايا الدماغ مروراً بأنسجة القلب، قبل أن يتخذ شكل صورة لجلسة في أرض الديار، في المعمار الدمشقي العتيق، تحتضن فيها المرحومة جدتي "ثروت خانم" آلة العود وتعزف "رقصة ستي" للنقشبندي، فترقص مراهقات العائلة على أنغامها.
مع مرور الوقت، بدأت ذكريات فرنسيّة تأخذ مكانها إلى جانب تلك الذكريات، نزهات في الريف الفرنسي البديع، غرباً وشرقاً، في الجنوب حيث الدفء على شواطئ نيس، في الوسط حيث الثلج الناصع فوق قمم جبال الألب، وحيث عذوبة ألوان الغروب على ضفاف بحيرة أنيسي، في باريس المشرقة صباحاً بالرغم من جريها اللاهث خلف لقمة العيش عبر أروقة المترو، المبهرجة بالأنوار ليلاً بالرغم من كدّها المتعب طيلة النهارات الغائمة الماطرة المشمسة المتقلّبة، باريس التي تظل هي العاشقة للغواية، غواية كل من يزورها سائحاً أو يحلّ في ديارها مهاجراً..
الذكريات الجديدة لم تنجح في إلغاء القديمة، وأصبحتُ أردّد بطيبة خاطر كلمات أغنية موغلة في القدم لجوزفين بيكر "في قلبي حُبّان، حبي لبلدي وحبي لباريس...".
باسم هذا الحب لباريس بات يتملكني خوف عليها، على تفاصيلها، على أهلها، على الفرنسيين الذين بدأت مظاهر "العولمة" تلتهم معالم حياتهم الأبرز، يشكون من هيمنة "تكنوقراطيي بروكسل" على مصائرهم، بعد أن بات هؤلاء يتدخلون مثلاً في تركيبة أجبانهم الشهيرة، وفي البيانات المفروضة على علب أغذيتهم، وحتى في نوعيّة البذار لزراعة أراضيهم، ولا مانع لديهم من تعديل جيناتها.
الاقتصاد العولمي الجديد الذي يحثّ عليه أولئك "التكنوقراط" جعل ممكناً شراء مصانع بأكملها من قبل مجموعات اقتصادية عملاقة أميركية الهوى سرعان ما تقرّر أن تشغيل المصنع مُكلف، وأن ضرورات السوق تقتضي تسريح مئات العاملين فيه من الفرنسيين أو مهاجريهم، وتوصي بنقل المصنع إلى أحد بلدان أوروبا الشرقيّة، من تلك التي انضمّت مؤخراً إلى المجموعة الأوروبيّة، وعين ولائها على قبعة العم سام وإصبعه المهدِّد!!!.
أحد المعلّقين كتب آنذاك بهذا الصدد:
"يترك مشروع المعاهدة الدستورية الأوروبية للسوق وحدها تحديد آليات العمل، دون أي تدخل للدولة في السياسة النقدية، لدعم النمو مثلاً أو محاربة البطالة، وكلمة "بطالة" لم ترِدْ ولا مرة في مشروع الدستور، علماً بأن معدّلها في أوروبا يتجاوز نسبة 9 %، وفي المقابل تَرِد كلمة "البنك المركزي الأوروبي" 98 مرة".
لست خبيرة اقتصادية، ولست متعمّقة في السياسة، لكن كنت أعرف أن في صفوف الرافضين أسماء أحترم دفاعها عن قيم الإنسان والأرض والطبيعة والقمر والنجوم والورود وحتى القرود!!!، "جوزيه بوفي" مثلاً، أشهر مناهضي العولمة، إذا كان وافق (على مضض!) أن يكون في الجهة ذاتها مع أسماء معروفة بتطرّفها جهة اليمين، فهذا يعني أن الخطر كان أكبر مما نتصوّر.
مما لا شك فيه أن القوة العظمى المهيمنة التي قيل إنها ستكون مسرورة من فوز الموافقين على المشروع، ستظل مهيمنة، بكل الأحوال، إلى أن تدور عليها دورة التاريخ، كما دارت على من سبقوها... هذا أمر تحكمه الحتميّة التاريخيّة..
سألت أصدقائي الفرنسيين، طبقاً لقناعتي بنظرية "المؤامرة الكبرى": هل تظنون أن إدارة بروكسل "مخردقة" بأشخاص تابعين للقوة العظمى إياها؟ فجاء جوابهم أبسط بكثير مما كنت أتصوّر: معظم تكنوقراط بروكسل من خريجي الجامعات الأمريكية ويؤمنون بالليبرالية العظمى!!!..
شكراً للإجابة الواضحة... و...
عبثاً يدوم اغترابي!..