لازرعلك بستان ورود...

هيـــــام الحمــــــــــــوي
لماذا يصرّ البعض على أن التاريخ يعيد نفسه؟ هل أن مخيلة البشرية فاقدة للخيال إلى هذا الحد؟ ألا يمكن لكل مرحلة أن تتميز بتسمية أو بعنوان يشبه واقعها دون اللجوء إلى مرجعيات سابقة قد تؤثر على الاستيعاب لدى المتلقي، فتحيد به عن المعنى المقصود؟.
يكثر الحديث اليوم عن "ربيع عربي"، نسبة إلى ربيع آخر عرفه أبناء جيل الستينيات في القرن الماضي، حيث أطل وقتها، في عام 1968، ربيع أوروبي/ أمريكي ولدت بوادره الأولى في مدينة براغ، عاصمة ما كان يُعرف آنذاك باسم تشيكوسلوفاكيا، (التي تجزأت اليوم وتحولت إلى أكثر من دويلة)، ثم انتقل غرباً إلى باريس، والتقى بموجة ربيعية أخرى قادمة من أقاصي الغرب الأمريكي، من سان فرانسيسكو تحديداً، متحركة باتجاه الشرق...
لا يهم أي الاتجاهين كان أكثر تأثراً بالآخر، لكن الطريف أن الربيع الذي أزهر في براغ كان يريد الخروج بجيل الشباب من دائرة الستار الحديدي المفروض على البلاد من قبل "الأخ الأكبر"، أي الاتحاد السوفييتي، الباسط هيمنته من الخارج، بينما كانت الموجة الربيعية الأخرى تتمرد على سلطة الداخل، فمن المعروف أن حركة "الهيبيز" جاءت كرد فعل شبّان أمريكيين رفضوا الانخراط في الحرب الساخنة التي تشنها حكومتهم على الفيتنام، "حكومة وشعباً" (حسب التعبير المكرّس)، إلى جانب الحرب الأخرى المسماة "باردة"، ضد القوة العظمى في المعسكر المقابل، والتي ينخرط فيها جنود طوعيّون من نوع آخر، يسمّيهم البعض "عملاء"، يحاربون بدم بارد وبأعصاب خارجة لتوها من ثلاجات المراكز الاستخباراتية التي تُبرمجهم.
أعمال أدبية، وأخرى غنائية، وحتى أعمال مسرحية، أرّخت فنياً لموجة "الهيبيز" التي يُحسب لها أنها أحدثت، في أوروبا بشكل خاص، ما يشبه الهزة البركانية التي أطاحت بقديم السياقات الموروثة والمألوفة في الفن والثقافة بكل جوانبها، وكذلك في العلاقات الاجتماعية: في إطار الأسرة وكذلك في الأحزاب والمؤسسات الرسمية، وحتى في الكنيسة.
من أبرز هذه الأعمال الفنية، المسرحية الغنائية الأشهر والتي كانت بعنوان "هير" HAIR أي الشَعر، نسبة إلى الشعر الطويل الذي استرسل على رؤوس وأكتاف جيل كامل من الشباب في المعمورة منذ منتصف سنوات الستينيات وحتى أواخر السبعينيات. المسرحية عُرضت على أشهر مسارح العالم، من لندن إلى نيويورك إلى باريس، كما تحولت عام 1979 إلى فيلم سينمائي ينبض حباً وغضباً وسياسة، ويحمل توقيع المخرج المبدع ميلوش فورمان، وتشاء الصدفة (هل هي فعلاً صدفة؟؟؟!!!) أن يكون تشيكوسلوفاكي المولد!!!
اليوم تستعيد بعض المسارح الغربية هذه المغناة بممثلين جدد، ومغنّين جدد، ليرددوا مجدداً الكلمات الأشهر في الأغنية الشعار: "اتركوا الشمس تدخل..."، وهم يزيّنون رؤوسهم بالورود، وورود أخرى تزركش ملابسهم الزاهية المزهوة بألوانها، فيستعيد الآباء، وربما الأجداد، مع أبناء جيل اليوم، لحظات تمردّهم بكثير من الحنين، فقد كان المبدأ رفض عنف القطبين المهيمنين، ورفض الانخراط في مجتمع استهلاكي يجرّد الفرد من إنسانيته، أفكار أنجبت الكثير من الإبداعات، التي أضافت للحياة مزيداً من الجمال، كانوا يهتفون وهم يحملون لافتات مفادها "نعم للحب، لا للحرب"...
اليوم أيضاً نجد في بقاع أخرى من الأرض ربيعاً قاتماً ودامياً لشباب لا يعرف الفرح ويخشى فكرة الحب، يشيح بوجهه عن جمال الوردة، ويصمّ أذنيه عن همس كلمات "ليست كالكلمات"، أو عن وقع "كام كلمة يشبهوا النسمة في ليالي الصيف"... الأغاني، دائماً الأغاني، تشدو بها الأصوات لتشدّنا من أذننا نحو مواطن الجمال في الحياة، فلنحسن الإصغاء، لأن فيها من العِبر الكثير مما يعلّم، واسألوا أبا الفرج الأصفهاني.
صوت من بلادي آمن بالحب والورود، ظل على مر السنوات يردّد وعده لحبيبة رفضت الإنصات، حتى بُحَّ الصوت وانطفأ واختفى صاحبه ورحل، مخلّفاً حسرة وأسى في قلوب جيل من العشاق، كان الصوت سفيرهم في جمهوريات الحقد... وا أسفاه، لقد خسر الحب أحد دعاته... فهلّا تبعنا الصدى؟.