لكي لا يصبح التحوّل نحو الديمقراطية سراباً

 

سام دلة  - بلدنا

 

 

بعد عقود من الجدل والمناظرات التي دارت بين المفكرين منذ بدايات عصر النهضة، وبعد صراع محتدم بين بعض المفكرين وبعض المعارضة وبين الحكام حول ضرورة الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية، حصل منذ عقدين من الزمن نوع من التوافق المبدئي (لا يخلو من بعض التواطؤ أو حتى التكاذب) بين الجميع حول «ضرورة الانتقال إلى الديمقراطية».

 


أما الآن، وبعد الوصول إلى شبه إجماع بين جميع الأطراف حول «حتمية الديمقراطية» وعدم الرجوع عنها كخيار، بدأ الجميع يطرح أسئلة، بطريقة أو أخرى، يمكن أن تدخلنا في جدل جديد محوره أيّ نمط أو «نموذج للديمقراطية» نريد.

ويبدو أن بعضهم في طرحه هذه الأسئلة قد انطلق من منطلق الرفض الخجول أو المبطن، وبلغة تتضمن في طياتها قدراً كبيراً من التشكيك، وخصوصاً من خلال طرح السؤال الآتي: هل من المقبول أو من الممكن في مجتمعات عربية هيمنت عليها ممارسات تراثية أضحت متجذرة كقيم لهذه المجتمعات باعتبارها مستندة إلى مرجعيات دينية واجتماعية وثقافية ... أن يتم تبني النموذج الغربي للديمقراطية؟ الآن ... وبعد أكثر من قرن على بداية هذا الجدل القديم ... وبعد وصولنا اليوم إلى نقطة اللاعودة عن حتمية تبني الديمقراطية كخيار، وكي لا ندخل في جدل جديد حول البحث عن «النموذج الديمقراطي» ... جدل قد ندخل فيه ردحاً من الزمن ينقلنا من حتمية الديمقراطية إلى مجرد سراب الديمقراطية ...

نجد أنفسنا أمام ضرورة حسم خيار النموذج. فبعد صراع مجتمعي حول فكرة أو مجموعة من الأفكار والقيم ... والوصول إلى خيار لا رجعة فيه، لا بد - كما يقول المؤرخ المغربي المعروف عبدالله العروي في كتابه الشهير الأيديولوجية العربية المعاصرة- من صياغة أو تبني نموذج مثالي Ideal Type لتجسيد هذه الأفكار والقيم إلى نظام محدد قابل للتطبيق. وكي لا نراوح في نقاش نظري، وكي لا ندور كما درنا دائماً حول نظرية «الاستثناء العربي» بالنظر إلى ما جرى ويجري في مجتمعات عالمنا منذ بداية ثمانينات القرن الماضي في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، لاسيما في دول المنظومة الشيوعية في أوروبا الشرقية، لا بد من تبني النموذج الذي تبنته هذه المجتمعات.

 


لقد أدى سقوط الاتحاد السوفييتي، خاصةً وانهيار النموذج الشمولي في السياسة عامةَ، وفشل أسلوب التخطيط المركزي في تحقيق كفاءة الاقتصاد، وتراجع هيمنة السلطة على مجمل فضاء المجتمع المدني، و...، إلى الدفع بالنموذج الديمقراطي الغربي إلى صدارة المشهد السياسي العالمي كنموذج مثالي بالنظر إلى ما حققه من مستويات متقدمة من التنمية البشرية للمجتمعات التي تبنته.

وتحولت الديمقراطية التمثيلية الغربية لتصبح الأيقونة أو النموذج السياسي الأمثل، الذي يمكن تطبيقه في مختلف مجتمعات العالم وبغض النظر عن التمايزات الحضارية والثقافية. وبعبارة أدق أصبحت الديمقراطية الغربية عابرة للقارات والثقافات، على الأقل في ما يتعلق بملامحها الأساسية المتمثلة في حرية التعبير وحرية التفكير وحرية التنظيم والانتخابات الدورية النزيهة على كافة المستويات الوطنية والمحلية، وقبل ذلك كله تداول السلطة. وبالتالي أصبح من الممكن القول، إن الديمقراطية الغربية بغض النظر عن منشئها وتاريخها أضحت تراثاً مشتركاً للإنسانية جمعاء، وأضحت أيضاً معياراً للحكم على شرعية نظام سياسي.

 


وهذا ما أشار إله الباحث المرموق فلاديمير يتسمانينو (المتخصص في دراسة الأنظمة الشمولية التي كانت سائدة في أوروبا الشرقية) في كتابه «إعادة اختراع السياسة: أوروبا الشرقية من ستالين إلى هافل» بقوله : إن عملية الإصلاح السياسي تتطلب - كما في الإصلاح الاقتصادي- إنهاء تأميم السياسة، فمحور وجوهر الاستبداد يكمن في تأميم السلطة للحياة السياسية وإقصاء الجماهير عن المشاركة السياسية قانوناً وعملاً، ومحور وجوهر النظام الديمقراطي يتمثل في إشاعة السياسة في المجتمع، التي تخلق بدورها الدينامية في الحياة العامة، وهذا هو جوهر النموذج الديمقراطي الغربي.
لقد كان التحول الديمقراطي للأنظمة الشمولية التي كانت سائدة في أوروبا الشرقية نحو النموذج الليبرالي الغربي مجالاً للعديد من الدراسات المعمقة، التي بينت معظمها جسامة التحديات والمشكلات التي رافقت هذا التحول.

ولعل أهم هذه التحديات تمثل في أن انهيار النظم الشيوعية الشمولية لم يؤد إلى الانهيار الفوري للثقافات الشمولية السياسية، ولا إلى اختفاء العادات والعقليات والاتجاهات والرموز والقيم التي اخترقت الحياة الاجتماعية لعقود طويلة. وتمثلت المشكلة الأساسية في كيفية خلق بنية سياسية ديمقراطية في ظل غياب ثقافة تتسامح مع الاختلافات أو قادرة على التأليف بين الاتجاهات المتصارعة بغير أنماط الوسائل التسلطية في الرقابة والإكراه، وفي كيفية خلق روح للمسؤولية المشتركة والتغلب على الاتجاهات الأنانية التي تنزع إلى الدفاع عن المصالح الضيقة على حساب المصالح العامة. إن الإصلاح السياسي العربي الذي يظن بعضهم أنه يمكن أن يتحقق بقرارات سياسية تصدرها النخب السياسية الحاكمة، سيواجه نفس المشكلات الحادة التي واجهت المجتمعات الأخرى.

وبالتالي لابد من الإيمان بأننا في حاجة إلى مسار سياسي اجتماعي ثقافي طويل وحازم لتغيير الاتجاهات السلبية السائدة في المجتمعات العربية، والتي حولت المواطنين إلى مجرد «رعايا» للسلطة تفعل فيهم ما تشاء. هذا المسار يجب أن يهدف بالدرجة الأولى إلى ترسيخ قيم المواطنة التي تشكل الأساس الجوهري لإشاعة السياسة في المجتمع وخلق نمط من دينامية الحياة السياسية الحامل الأساس للنموذج الديمقراطي. بعبارة أخرى، لابد من إعادة بناء فضاء سياسي محوره المواطن، يتضمن إعادة تحديد دور الدولة، وتقنين مسؤولياتها، وبيان حدودها، وتعريف حقوق المواطنين وواجباتهم، وتوسيع مجال مؤسسات المجتمع المدني...


باختصار لا بد من العبور بالمجتمع من الركود إلى الحيوية السياسية.