ليالي رمضان أيام زمان ... حكواتي وكركوزاتي ومقلاية كمان

تيسير أحمد- شام نيوز
تختلف ليالي رمضان في دمشق قبل الثورة التكنولوجية، عنها بعد هذه الثورة، فالسهرات الآن تكاد أن تكون في معظمها لمشاهدة الكم الهائل من المسلسلات التلفزيونية التي بات رمضان الموسم السنوي لها. ولكن ماذا كان يفعل الدمشقيون قبل اكتساح التلفزيون لحياتهم؟
لقد كانوا ببساطة يحيون سهراتهم بالنميمة المحببة والتي تسمى المقلاية، وكان البعض يذهب إلى الحكواتي ليستمع إلى سيرة عنتر والزير، والتي كانت تتحول إلى مهرجان شعبي في كثير من الأحيان، وأما البعض الآخر فكان يقصد الكركوزاتي الذي يقدم لوحاته بنفحة ناقدة للحياة العامة.
المقلاية والنميمة الحلال
يقول الباحث منير الكيال كانت ليالي رمضان في دمشق ذات نكهة خاصة، وكان الدمشقيون يحيون ليالي هذا الشهر بإقامة التراويح بأحسن أداء والمكبرون يلونون في التكبير في الأصوات الحسنة والإمام يصليها بسورة الرحمن بصوت حسن.
وفي أخريات الشهر يصلون مع الإمام اثنتي عشرة ركعة عقب التراويح يطلقون عليها اسم صلاة الرغائب، وفي هذا الشهر تعود السهرات الدمشقية العريقة إلى مجدها الذي غاب طوال السنة، وفي هذه السهرات يجتمع الأقارب نساء ورجالا يتبادلون النكات، ورواية أخبار السلف وقفشاتهم، ولا يزال لتلك السهرات الرواسب العذبة في نفوس القوم. وبعض هذه السهرات يتخللها الغناء والطرب البريء وبعضها الآخر يقوم على التحدث عن الناس وتسمى ( مقلاية ) إشارة إلى ذكر عيوب الآخرين وتقليب أوضاعهم، ومع أن الغيبة والنميمة من المحرمات فأنها محللة في عرف الدماشقة خلال سهراتهم في ليالي رمضان ..
فما أن يذكر اسم شخص حتى تذكر مساوئه وتغفل محاسنه، ويقلب في ( المقلاة) ذات اليمين وذات الشمال ولا يترك إلا وهو محروق.. ومن لم يتيسر له ذلك ينطلق إلى المقهى بعد صلاة العشاء والتراويح لتمضية بعض الوقت، فيتناول الشاي أو المرطبات وقد يدخن النارجيلة ( الأركيلة ) ويستمع إلى الحكواتي إذا شاء، وقد يحضر مشهداً لخيال الظل إذا رغب ..
الحكواتي...
ويقول الباحث كيال إن الحكواتي قصاص شعبي يتخذ مكانه على سدة عالية في صدر المقهى. والاستماع إلى الحكواتي عادة قديمة نشأت من الأمية فيجتمع في المقهى عدد من الناس، يختلف بحسب نوع القصة وشهرتها وجودة القصاص أيضاً، ومن تلك القصص: عنترة والزير وأبي زيد .. وهي روايات حماسية تمثل الشجاعة والكرم والأنفة والحميّة والوفاء والصدق والمروءة والجرأة وحفظ الذمام ورعاية الذمار والجار .. إلى آخر ما هنالك من المكارم التي ينسبونها إلى أبطال الرواية، ويجعلون النصر لهم والدائرة على مناوئيهم، ويصفونهم بالجبن والكذب والبخل والرياء والغدر والخيانة والنكث بالعهد، إلى آخر ما هنالك من المفاسد . مما في نفوس السامعين حب الفضائل والعمل بها ويبغض لهم النقائص ويحملهم على البعد عنها .
أبو شادي آخر حكواتية دمشق
عنتر وعبلة
وتقدم تلك الروايات على أقسام، كل يوم قسم، ويتوقف الحكواتي عادة في موقف حرج من الرواية مما يربط المستمع ويشده في اليوم التالي لمتابعة ما حدث للبطل.. وحدث أن الحكواتي توقف مرة أثناء قراءة قصة عنترة عند أسره وزجّه بالسجن بعد تكبيله بالحديد والأغلال . وصعب على أحد الحاضرين الذين يهيمون بعنترة أن يتركه سجيناً، ولما ذهب إلى منزله لم يستطع النوم فرجع إلى منزل الحكواتي وأيقظه مهدداً إياه بالقتل إذا لم يخرج عنترة من السجن ويفك قيوده في الحال .. فأضطر الحكواتي إلى متابعة القصة حتى أطلق سراح أمير الفوارس.
ومن أطرف ما يروى أنه عندما كان يصل الحكواتي إلى زواج عنترة يقوم عشاقه بتزيين الحي وإقامة الأفراح وقرع الطبول ..
فصول خيال الظل
وإذا كان الاستماع إلى الحكواتي ممكناً في جميع أيام السنة، فإن مشاهدة فصول خيال الظل قاصرة على ليالي رمضان، وهذه الفصول تعرض على فئتين من المشاهدين للصغار والكبار، كل على حدة، للصغار في أول السهرة ومن ثم للكبار، ولكل فئة مستوى معين من أسلوب العرض ومضمونه . وقد كان للكراكيزي قبل أن تنشأ وسائل الأعلام دور هام في حياة القوم، فعلى لسان شخوصه يقدم ما يريد أن يبث في أذهان المشاهدين من نقد وتجريح أو مدح أو طرب وغناء، مع بعض الحكم والنوادر، من خلال فصوله التي يعرض كل ليلة فصلاً منها أو من خلال مسلسل الحرب الذي يقدم كل ليلة جانباً منه، فقد كان الكراكيزي يلقي على لسان شخوصه التعليقات السياسية الناقدة للحكام العثمانيين أو الفرنسيين، وذات ليلة بات الكراكيزي في النظارة لأنه شتم الشرطة في نكتة لاذعة . وتلك الفصول منها ما هو أصيل متوارث كفصل الطاحون وايا صوفيا واليهودي، وشمّ أرين الساحرة، وبعضها وضع في فترة لاحقة كفصل علي كوكب الدوماني والوزير الخائن .. وسبب وضعها أن حوادثها جرت وأثرت في حياة القوم فأستغل الكراكيزي ذلك وأراد أن يستخلص منها العبر على لسان شخوصه .
كراكوز وعيواظ
وبعض هذه الفصول الموضوعة مستمدة من الواقع، فكثيراً ما يقوم الكراكيزي بدور الصحافة الآن، فقد كان يدخل المحكمة ويسترق السمع ويتابع الأحداث التي تجري في البلد ليضمّن ذلك في فصوله، لذلك كان الترخيص بالعمل لهذه المهنة كان يخضع لصعوبات مشددة، وكان على الكراكيزي أن يكتب على نفسه تعهداً بعدم التعرض للسلطة بالنقد والتجريح .
يقول الباحث منير الكيال حدثني الكراكيزي أبو سليمان المعماري أن الصحافي المرحوم سعيد التلاوي كان يتسقط الأخبار منه وهو وراء الخيمة.
وكان يساعد المخايل في عمله تخت موسيقي يأتمر بأمر شخوصه ويردد معهم، وكثيراً ما كان الكراكيزي ( المخايل ) يجري حواراً بين الجمهور وبين شخوصه ذلك أن براعة الكراكيزي ليست في تحريك الشخوص الجلدية بأصابعه العشرة بخفة وسرعة خاصة فقط، وإنما أيضاً بقدرته على إسماعك الأصوات كل حسب شخصية صاحبها وغنة صوته دون تبديل حتى أنه يستطيع أن يسمعك صوت (عراضة) فيها أصوات مختلفة، وقد يكون المشهد صاخباً أو حربياً وفي هذا براعة تقارب المعجزة، وقد حدث أن جن أحد الكراكوزاتية من شدة براعته وتوزع صوته على شخصيات الفصل فخرق الخيمة ومد رأسه منها .
وإذا مارس بعض المخايلة الأسفاف والسوقية في تعابيرهم في الفترة المتأخرة إلا أن من سبقهم ترفعوا عن ذلك.