ليبيا: لماذا احترقت الأحلام؟

«العدالة بدلاً من السلطة.. القانون بدلاً من الاستبداد» كانت تلك الشعارات هي بداية الثورة الليبية التي بدأها بعض القضاة في يوم 15 شباط 2011 من أمام المحكمة العليا في بنغازي. وكانت المسألة تتعلق بجريمة قديمة للنظام حدثت عام 1996، حيث تمت تصفية 1264 سجيناً سياسياً في سجن أبو سليم في طرابلس الغرب. ومنذ ذلك الوقت كان أهالي الضحايا يطالبون بالعدالة في قضية أبنائهم وإخوانهم .
تجمع 14 قاضياً ونزلوا إلى الشارع. كانت تلك هي البداية. سارت جموع وراء القضاة. واجهتهم السلطة بالرصاص. ردت الجموع بالحجارة. ثم هاجم المتظاهرون الثكنات واستولوا على الأسلحة فيها.
تكاثر عدد المواطنين أمام المحكمة، وأصبحوا آلافاً. وتألف المجلس الوطني الانتقالي من قيادة الانتفاضة. كانت البداية فوضوية إلى حد ما. طبع الشبان الشعارات وأصدروا جرائد ومجلات. وتحولت قاعات المحكمة إلى غرفة عمليات للثورة.
يقول خالد الساجي، أحد القضاة المنتفضين: «في عهد القذافي، لم تكن هناك عدالة ولا قانون. كان أنصاره يعتبرون أنفسهم فوق القانون. أما المعارض فيرسل فوراً إلى سجن أبو سليم».
ذهب ثلاثة من القضاة إلى طرابلس الغرب للتحدث مع القذافي ولطرح مطالبهم معه. وكان المطلب الأول كتابة دستور للبلاد. ولكنه كان ساهياً عنهم. وأبدى عدم اهتمامه: «ليس الوقت وقت إصلاحات».
في ذلك الوقت تألفت بسرعة بالغة قوة قتالية من عشرات من سيارات البيك ـ أب، التي تحمل مدافع رشاشة ومن مئات من السيارات العادية التي يجلس فيها مقاتلون يحملون بنادق الكلاشينكوف، وسارت تلك القافلة في الطريق الساحلي الوحيد، وفي طريق آخر يؤدي إلى الصحراء في الجنوب. بلغ عدد المقاتلين 3000 فقط.
لم تواجه القافلة المقاتلة أي مقاومة من خلال تقدمها. وكان المقاتلون يرسلون زخات من الرصاص في الهواء. كانت الأرض منبسطة بغير عوائق. وكانت البلدات تسقط بيدهم بسهولة تامة. لم يكن في ساحة المعركة غابات كثيفة كما في فييتنام. ولا جبال وصخور كما في أفغانستان. بل أرض مثالية لعمليات الدبابات والمدفعية الثقيلة.
تألف جيش القذافي من 25 ألف رجل و2200 دبابة ومدرعة. كانت الأسلحة قديمة. ولكن المعركة مع قافلة من السيارات لم تكن تتطلب التزود بصواريخ «كروز»، كان ميزان القوى يميل بشدة إلى جانب قوات القذافي. ولكن ولاء تلك القوات كان موضع شك.
تقدمت قوات الثوار بسهولة إلى مدينة «بريقة» النفطية. وامتد تقدمهم إلى مسافات طويلة على الطريق الساحلي وفي بعض الأحيان إلى الطرقات التي توصل إلى بعض المدن في الصحراء. وكانوا يتقدمون في بعض الأحيان من دون غطاء ناري، مما يعد مجازفة خطرة. وكان الكثير من المقاتلين يقولون «الموت يأتي إليك»، مهما فعلت، لا يستطيع الإنسان ان «يهرب من قدره».
كان مهند بن صادق من المقاتلين ويبلغ من العمر 21 عاماً. وهو عاش في ولاية فرجينيا في أميركا. كان أبوه ليبياً وأمه أميركية. وأتى ليقاتل من أجل الحرية، ومن أجل حرية الأديان. هل كان إسلامياً؟ ربما! كان أغلب المقاتلين اسلاميين. ويقولون إن القذافي اضطهدهم وكان يرسل الملتحين إلى السجون.
امتد تقدم الثوار إلى «رأس لانوف» ومن ثم إلى «بن جواد» على بعد 40 كيلومتراً. لم يكن أحد يصدق ان يحقق الثوار ذلك الانتصار من دون قتال. ولكن الأمر لم يدم طويلاً. إذ شنت قوات القذافي هجوماً مضاداً واسترجعت البلدة. وكانت سيارات الاسعاف تنقل المزيد من الجرحى. وقعت مدينة «راس لانوف» تحت وابل شديد من القصف المدفعي والصاروخي. وكان الأطباء يتلقون كل اليوم أخباراً عبر الهواتف الخلوية، لإعداد قوائم بأسماء الشهداء.
تقدم جيش القذافي بمدرعاته وطائراته المقاتلة ومدفعيته الثقيلة واسترجع «راس لانوف» و«البريقة» و«أجدابيا» ولم تبق له الا مسافة قصيرة يصل بعدها إلى بنغازي. ظن واضحاً ان الثورة في طريقها إلى الضياع والخسارة، وكان مهند القادم من «مارتين فيل» في فرجينيا من ضمن المقاتلين الذين فضلوا المقاومة على الانسحاب. وسقط شهيداً في مدينة «البريقة». وفي ذلك الوقت ظهرت طائرات حلف الناتو في السماء الليبية.
لم تكن الجبهة في الشرق هي الجبهة الوحيدة للقتال، بل كان هناك جبهات قريبة من طرابلس الغرب. وخاصة في مدينة مصراته التي استولى عليها الثوار. ولكن قوات القذافي حاصرتها بواسطة الدبابات والمدرعات والأسلحة الثقيلة وكانت تقصفها يومياً بالقذائف والصواريخ ما أدى إلى وقوع عدد كبير من سكانها قتلى.
كانت بداية القذافي كضابط ثائر يضع جمال عبد الناصر كمثله الأعلى، ساطعة، اما نهايته فكانت قاتمة. وقد قتل برصاصة في الرأس. ويقول الإعلام الغربي عنه إنه كان إرهابياً، ومهرجاً في مسرح السياسة العالمية. ويقولون أيضاً إنه كان يرسل خصومه إلى الموت من دون أية أسباب. كان ديكتاتوراً قاسياً، ظن انه مالك للبلاد، حجراً وبشراً.
كانت شعارات الكتاب الأخضر معلقة في كافة المدن الليبية مثل «شركاء لا أجراء» و«البيت لساكنه»، وغيرها. كانت أحلامه كبيرة ولكن الاستبداد أحرقها كلها. وتصرف كباقي طغاة العالم.