"ليه يا بنفسج..."

 

هيـــــام حموي

 

في عيادة الطبيب، جاءت تشكو ألما جسديا بدأ خفيفا وموضعيا، ثم انتشر واستفحل قويا في مختلف أنحاء الجسم، وبات مؤرِّقا ويقف حاجزا أمام تحوّل النعاس إلى نوم، والكل يقول عن الحالة بأنها "مجرد حالة نفسية" تعبّر عن ذاتها بالألم، بعدما فشلت كل العلاجات الموصوفة سابقا.

لم تكن تعوّل كثيرا على زيارة الطبيب الذي نصحها به أصدقاؤها، ذلك أنها بعدما قطعت شوطا طويلا في مسيرة الخيبة والإحباط، حملت أملها اليائس في محاولة أخيرة، وطلبت الاستشارة من الحكيم المجرّب.

فيما كانت مسترسلة في سرد تاريخ أوجاعها بالتفاصيل الأكثر دقة، قاطعها الطبيب قائلا: "هل بإمكانك أن تقولي لي ما لون ألمك؟ وهل للألم لون؟ سألت دون تفكير، ثم فكّرت: نعم ألمها داكن اللون، بل إن لونه يتأرجح ما بين البنّي الغامق والبنفسجي المائل للأحمر في شكل ومضات. نعم للألم لون، بالتأكيد وبالتأكيد، إذا عملنا على تصوّر الألم وتجسيده كلوحة، لربّما ساعدنا ذلك في التوصل إلى نتيجة للمشكلة الصحية.

في العلاجات الموازية أو البديلة التي يتم اللجوء إليها بعد استنفاد كل الوسائل التقليدية، من أجل التخلص من التوتر وتأثيره على الصحة، تعتمد بعض التدريبات الخاصة بالاسترخاء، على التنفس بعمق عدة مراّت، ثم استحضار لون محبّب في المخيّلة، لتركه يجتاح تدريجيا مختلف أنحاء الجسم، بدءا من أخمص القدمين وحتى أعلى الرأس، ويُفترض أن يحلّ هذا اللون الأثير مكان الألم والتشنّجات، ويُستحسن أن يكون اللون مختارا من بين الألوان الهادئة، ويُقال إن الفكرة قد أثمرت إيجابا لدى بعض من آمن بها، والله أعلم...

وعن الألوان، يحلو لنا التذكير هنا بأهمية المساحة التي تحتلها في حياتنا، وفي مفرداتنا اليومية، فالحياة نحلم بها وردية، ووردي أيضا لون الملابس الخاصة بالمواليد الإناث، في حين اختص المواليد الذكور باللون الأزرق، والأزرق كذلك هو لون الحزن في الثقافات الغربية، الكاتبة الفرنسية الشهيرة فرانسواز ساغان، صاحبة الرواية الشهيرة "صباح الخير أيها الحزن"، اختارت لرواية أخرى لها عنوانا يحكي عن "جروح الروح"، والعنوان باللغة الفرنسية يشير إلى بقع زرقاء على سطح الروح، إن صح التعبير، كدلالة على زرقة البقع التي تظهر فوق سطح الجلد نتيجة الكدمات، وهي نفسها من كتبت رواية شهيرة أخرى في خمسينيات القرن الماضي بعنوان "ابتسامة ما"، والابتسامة لم تكن "صفراء"، فاصفرار البسمة دليل شرّ مبيّت لدى الشخص الباسم بهذه الطريقة. في هذه الأثناء، جرى الاصطلاح أن يكون الطهر أبيض والأمل أخضر والمجون أحمر والحقد أسود، وكذلك نهار بعض المصريين المعروفين بخفة الدم، وليلتهم أيضا، عندما لا تكون الأمور على خير ما يرام، وإذا زادت جرعة التشاؤم يصبح نهار أبيهم "كحلي"!!! وأحيانا، في دنيا المجاز، يتساوى البياض والسواد في أداء ليلهم أو نهارهم، حسب نسبة خفة دم المتحدث. فيما عدا هذا، فإن "الأزرق" يتحوّل إلى نوع من الشتيمة اللطيفة، التي تحاول تخفيف سواد الفكرة، وهكذا سمعنا شاعر العامية الكبير بيرم التونسي يداعب البنفسج بعتب مخفف ورقيق، في الأغنية الشهيرة التي لحنها رياض السنباطي، واصما إياه بالسرقة واللصوصية:

 

" حطُوك خَميله.. جميله.. فوق صدور الغيد
تسمع وتسرَق يا أزرق، همسة التنهيد
ليه يا بنفسج بتبهج وانتَ زهر حزين"

 

هذا البنفسج "الأزرق" الحزين هو الرقة بعينها، ويجوز للشاعر أن يداعب الموصوف بما يمكن أن يخفف وطأة قسوة المعنى، لكن هل يجوز لمن ليس شاعرا بآلام ذاك الذي يعاني بصمت من أوجاع جسد الوطن، أن يجرّد المتألم من إحساسه بقتامة الألوان، ويحكم عليه، بوضعه قسرا وحصرا، في منطقة "رمادية"، لأنه لم يقبل تطرّف الرأي لجهة أو لأخرى، ولا دفاع له سوى الصمت الإيجابي الذي يقول أكثر بكثير مما يعبّر عنه الصراخ، هذا العاشق الصامت لسلامة الوطن، تجوز عليه الرحمة من التصنيفات الجائرة حتى لا ينفجر في وجه مستفزّيه بكل ألوان قوس قزح!!!