ما بين الإسكندر الكبير وتيمورلنك

 

خيري الذهبي. تشرين

وقال لي أحد أقربائي الشبان: ولكن أين هذه الـ (سورية) التي ما تفتأ تكتب عنها؟ أين أبو لو دور الدمشقي الذي بنى أعظم البنى في الدولة الرومانية؟ أين الشاعر ميليا غروس الذي كان واحداً من أوائل من آمن بأن الإنسان هو ابن الأرض, فهو فوق الأعراق والقوميات إلخ..

  


أين لوقا السيمساطي الذي عرفناه تحت الاسم الأوروبي لوقيانوس. أولوسيان ؟ أين ابن ديصان الشاعر والملحن الذي لاتزال أغانيه وألحانه تتردد حتى وصلت إلى فيروز والرحابنة, ولماذا وصلت سورية إلى أن يصبح شعراؤها في القرون الأربعة الأخيرة يكتبون قصائدهم عن الخيار والقثاء والحمص الأخضر, فقال قائلهم:
لماذا رجعت إلينا من شقة البعد والبين.
خلناك تحنو علينا يا حمص أخضر بقلبين
ويكتبون عن التوت: لعلك يا حبيب القلب تأتي وتأكل عندنا عنباً وتوتاً!
وعن الأترج _ الكباد: كأنما أترحنا المصبّع أيدي زنات من زنود تقطع
ما الذي انحط بسورياك هذه حتى وصلت إلى هذا الدرك مع هؤلاء الشعراء المغلقين كما يصفهم معاصروهم ولايكتبون إلا عن التين والزيتون ناسين الحرية والعدالة والمساواة.

 


وقفت أستمع إلى غضبه ذاك في صبر, كان في خطابه بعض نزق, ولكنه نزق المحب يتساءل: لماذا صار المحبوب على هذه الضعة والصغار؟ وما الذي وصل به إلى هذا الدرك ...وقفت أستمع في صبر, وكان دماغي يشتعل بسرعة لأستطيع إعطاءه جواباً لايصل به إلى الكفر بكل شيء.
 

قلت: ما بين الفتح الإسلامي لسورية, والذي كان فيه الحجازيون متواضعين مستعدين لقبول الآخر وفكره وحضارته, ولنذكر وصية أبي بكر الصديق إلى أسامة بن زيد: لاتقطع شجرة, لاتقتل راهباً الخ..ولنتعامل مع هذه الوصية بعيداً عن التقديس والدينية لنكتشف أن صاحب الوصية تاجر يعرف قيمة البضاعة التي سيدخل عليها بعد الفتح فهو لايريد حرقها, ولاتدميرها, بل يريد استبقاءها كاملة فهي عماد دولته القادم.. وهكذا ما إن استقر الفتح في سورية حتى انقلب الحجازيون الأمويون إلى الاستعانة بأهل البلد من كلب وغطفان وبكر وتغلب, استعانوا بهم ليضبطوا الميزانية ويقيموا العمائر ويؤسسوا للدولة, والجامع الأموي والمسجد الأقصى شاهدان طيبان على عدم تدمير الماضي, وعلى الاستعانة بالخبرات المحلية لبناء المستقبل, ثم لم يكتفوا بالحفاظ على البنية التحتية, بل تحولوا إلى البنية الفوقية, وأقدم شاهد لدينا على ذلك هو معاوية الثاني دارس الكيمياء المبكر على أيدي المعلمين السوريين.

 


وبدأت صناعة الحضارة العربية الإسلامية الكونية من الفلسفة والمنطق والعلوم الكونية والتي ستشع أنوارها في الأندلس وبغداد.
كان قريبي ينصت في اهتمام وهو يقول في سره: ماهذا الهراء الذي سمعته منك كثيراً, ولكنه أدباً لم يقلها, فتابعت وكانت القطيعة بين سورية والحضارة مع الانقلاب العباسي الذي دفع ببلاد الشام إلى الزاوية المظلمة من التاريخ, ولكن الإظلام الحقيقي جاء مع هولاكو الذي دمر مصادر المعرفة البشرية التي جمعت في بغداد الأكثر من ثلاثة قرون, ثم جاء تيمور الأعرج والذي كان يدعو نفسه: أنا لعنة الله على الأرض جئت لأطهرها من فسادها, وكان التطهير هو الحريق والدمار, والمضحك أن هذا المغولي كان مسلماً, ولكنه لم يتقدم بأذاه إلا للعالم الإسلامي, فدمر بخارى وسمرقند وإيران التي كانت مدينتها أصفهان تعد واحدة من أكبر مدن الأرض, فحكم بإعدام أهلها بعد ثورتهم على حكمه ذبحاً, وكانوا يعدون حسب المؤرخين المعاصرين أكثر من ألف ألف إنسان, ولنا أن نتخيل صعوبة ذبح مليون إنسان من رجال ونساء وأطفال وبعملية ذبح يدوية, كم دامت, كم أطلقت من آهات ألم, كم لوثت؟ ولكن بربرية آسيا ظهرت لدى هذه اللعنة الذي أكمل مسيرته إلى بغداد, ففتحها من حاكمها المغولي المسلم من أحقاد هولاكو _ أحمد الجلايري _ ثم أمر بعد ثورتها الثانية بذبح أهلها كاملين, ثم مضى إلى سيواس ثم نيقية والموصل, وحلب وحماة, ودمشق.


والأنكى أنه بنى مدناً حول سمرقند سماها دمشق وبغداد ومصر وقرطبة, ونقل إلى هذه المدن عقول وأيدي المدن التي دمرها, فأفرغ الشرق من عوامل الحضارة.

 

وقال أهل البلد بعد جلائه: سنعيد البناء, وقد استطاعوا ذلك, فمصر سلمت من تأثير تيمور, وأعاد الشاميون البناء, ولكنهم بعد مئة سنة فقط جاءهم الغازي الآسيوي القاسي قاتل أبيه وإخوته سليم العثماني, فشلّح مصر والشام للمرة الثانية, وخلال قرن من عقولها وأيديها, ونقلهم إلى استانبول حتى ليقول ابن إياس المؤرخ المعاصر له: خسرت مصر والشام بعد زيارة السلطان سليم أربعاً وخمسين مهنة اختفت تماماً من أسواقهما!

 

صمت ألهث بعد هذا الدفاع, ثم أضفت: فهل تعجب أن صاروا يتفننون بالخيار والتوت, ونسوا الديمقراطية الهلنستية, والعدالة الإسلامية, والأخوة الإنسانية.